مرّت مدينة الزبداني، خلال سنوات عمر الثورة السورية، بمراحل كثيرة، حملت في ثناياها، تطورات عديدة، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. ففي الخامس والعشرين من مارس/آذار 2011، خرجت أوّل تظاهرة مناهضة للنظام في الزبداني في ريف دمشق. واستمرت الاحتجاجات الشعبية بعدها، وتوسّعت في هذه المنطقة التي تبعد نحو 40 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من دمشق. وتعرّضت التظاهرات هناك، كباقي المناطق المنتفضة، لقمع وحشي، دفع قسماً من السكان إلى حمل السلاح، لتعيش الزبداني، منذ ذلك الحين نحو ثلاثة وخمسين شهراً دامياً.
شنّ النظام السوري، في أغسطس/آب 2011، حملته العسكرية الأولى عليها، إذ اقتحم الزبداني بعشرات المدرعات ومئات الجنود، بهدف إخضاعها، لكنّ أهالي المنطقة استأنفوا تظاهراتهم بُعيْد انتهاء الحملة مباشرة. تسارعت التطورات في أواسط يناير/كانون الثاني 2012، كون المنطقة باتت شبه خارجة عن سيطرة النظام، إذ بدأ الأخير "الحملة العسكرية الثانية". تعرّضت الزبداني حينها إلى قصفٍ مدفعي، ما دفع وفداً من لجنة المراقبين العرب، الذين أتوا إلى سورية لـ"تقصّي الحقائق"، كما قيل يومها، إلى زيارة المدينة في منتصف الشهر ذاته. وعادت التظاهرات لتتمدّد بصورة غير مسبوقة، وأصبحت قصة البلدة محط أنظار وسائل الإعلام العربية والغربية.
تسبّبت كل تلك التطورات في إحراج للنظام أمام حاضنته، وخصوصاً كون المنطقة حدودية مع لبنان، فكثّف من ضراوة حملته العسكرية، التي أسفرت عن مقتل العشرات من السكان نتيجة القصف. كما واجه النظام مقاومة شرسة من المقاتلين المحليين الذين كبّدوه بدورهم خسائر مادية وبشرية، وهو ما دفعه إلى زج المزيد من قواته، التي اقتحمت المنطقة في الحادي عشر من فبراير/شباط 2012.
شكّلت هذه الحملة الأخيرة واقعاً مربكاً للنظام، إذ بات تموضعه داخل المنطقة لوقت طويل، يُعد استنزافاً لقوته العسكرية في المنطقة. كما أنّ انسحابه سيُخرج المدينة مجدداً عن "بيت الطاعة"، كون أهلها ازدادوا تصلّباً في موقفهم المعادي له بعد فقدانهم للعشرات من أقربائهم نتيجة الاجتياح العسكري وقبل ذلك، خلال التظاهرات السلمية.
وكان الخيار المتاح لدى النظام، بقاء الجيش داخل شوارع وأزقة الزبداني نحو سبعة أسابيع، لتشكيل حاجزٍ معنوي، ربما يدفع السكان للإحجام عن مواصلة تظاهراتهم التي تجددت، بمجرد خروج القوات العسكرية في أواخر أبريل/نيسان 2012، بحسب الناشط الميداني، أبو حمزة، الذي كان شاهداً على تلك الأحداث. يروي الشاب الجامعي في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "منذ مقتل "خلية الأزمة" (شكّلها النظام لمواجهة الثورة، وتمّ تدمير المكتب الأمني القومي في دمشق، حيث تمركزها، في 18 يوليو/تموز 2012) ارتفع حجم إجرام النظام، وأصبح قصف الزبداني عشوائياً، في تلك الفترة، بهدف تهجير الأهالي".
أُعلن خلال عامي 2013 و2014، عن هُدنٍ ضمنية عدة، نتيجة جهودٍ بذلها بعض الوجهاء الذين تربطهم صلات مع مسؤولين في النظام، وهي اتفاقيات خرقها الأخير، بحسب شهادة عدد من أهالي الزبداني. بقي الأمر على هذا الحال حتى بداية مارس/آذار 2015. دخل في الرابع من الشهر ذاته، حزب الله اللبناني لمساندة النظام في حربه الشرسة على المدنيين، بهدف استرجاع كامل البلدة. وظهر جلياً من الحملة الإعلامية التي بدأت بالتزامن مع الحملة العسكرية، أن النظام السوري وحزب الله، أعدّا العدة لهجوم عسكري ضخمٍ، يؤدي إلى حسم سريع.
اقرأ أيضاً النظام السوري واستثمار هدنة الزبداني: تحييد جبهات وتأليب السكان
قناة "المنار" اللبنانية، التابعة لحزب الله، بدأت نشرتها الإخبارية، في ذلك اليوم، بعنوان رئيسي بارز، "الزبداني هي العنوان الجديد للمعركة التي يخوضها الجيش السوري ومجاهدو المقاومة لتأمين الحدود السورية اللبنانية". كما نقلت وسائل إعلام النظام السوري الرسمية والمقربة منه، تغطيات إخبارية خاصة لاحقاً، تمهيداً لإعلان "نصر عسكري سريع"، لم يتحقق لغاية اليوم، نتيجة بدء "جيش الفتح" لمعركةٍ في بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب، الأمر الذي عقَّد المشهد وأضعف موقف القوات المهاجمة للمنطقة، وردعها عن تحقيق أي إنجاز عسكري.
تدمير ممنهج
خلال كل تلك الفترة، تم تدمير 95 في المائة من منازل الزبداني ومحالها التجارية، منها بشكل كامل، ومنها بشكل جزئي، بحسب عضو مجلس المنطقة، عامر برهان، الذي يؤكد لـ"العربي الجديد"، وجود "سياسة ممنهجة لتهجير الناس". ويوضح برهان أنه "منذ بداية الحملة، تم إحراق جزء كبير من سهل الزبداني ومضايا بشكل متعمّد، وتمّ ردم الآبار التي يستخدمها الأهالي للزراعة ولحياتهم اليومية".
بدوره، يشير الناشط الإعلامي، فارس العربي، إلى أنّ "قوات النظام، وفي الحملات الماضية، قامت بشق طرقٍ فرعية بديلة عن الرئيسية في الأراضي الزراعية، وقامت بحرق أغلب البساتين. كما فجّر الجنود الغرف التي كان يقطنها المزارعون مع أسرهم في مواسم القطاف". ويعتبر العربي، الشاهد على كل ما جرى في منطقته، أنّ "شبيحة النظام واللجان الشعبية يواصلون اليوم مهمتهم الممنهجة بتدمير آخر ما تبقى من موارد وخيرات الزبداني. فهم ومنذ أسابيع، يقومون بقطع الأشجار المثمرة التي كانت مئات الأسر تعتاش منها".
كان عدد سكان الزبداني، مطلع العام 2011، يبلغ أكثر من خمسة وثلاثين ألف نسمة يعمل قسم منهم في مختلف القطاعات. كما يعيش الآلاف من الأهالي من موارد السياحة، كون المنطقة كانت مقصداً لعشرات آلاف السياح من داخل سورية وخارجها، وخصوصاً في فصل الصيف.
ويعدّ حرق أجزاء واسعة من سهلي الزبداني ومضايا الواقعين جنوب وجنوب غرب الزبداني، عاملاً إضافياً، يحرم مئات الأسر التي كانت تعتمد بشكل رئيسي على الزراعة كمصدر دخلها، إذ إن "الأراضي، وإن توقفت العمليات العسكرية مستقبلاً، تحتاج لاستصلاح"، بحسب ما يؤكد سكانٌ محليون لـ"العربي الجديد". ويضيف هؤلاء أن "الخسارة الاقتصادية التي لا يمكن تعويضها، تتمثل بالأشجار المثمرة التي تم قطعها، والتي يبلغ عمرها عشرات السنين، وكانت مصدر دخل رئيسي لآلاف الأهالي الذين سيبقون من دون مصدر دخل لعشر سنوات مقبلة، على أقل تقدير، في حال توفرت لهم الظروف لإعادة زراعة أشجار جديدة".
طموحات ومعوقات العودة
باتت الزبداني، اليوم، مدمّرة اقتصادياً وبنيوياً وبشرياً، باستثناء المئات الذين بقوا، لتصبح منطقة غير صالحة للعيش. وتحتاج ربما، في حال توقفت العمليات العسكرية في الوقت القريب، إلى سنوات طويلة كي يُعاد تأهيل الأراضي الزراعية، البنى التحتية والأبنية السكنية، فضلاً عن المحال التجارية والشوارع وغيرها، بحسب بعض السكان.
تقول الناشطة مريم الزبداني لـ"العربي الجديد"، إن "جميع الأهالي يتوقون للعودة إلى مدينتهم"، من دون أن يكون لدى الجميع القدرة على ذلك. وتضيف الزبداني، "النظام وحزب الله دمّرا منازلنا وأرزاقنا. ويضاف إلى ذلك أنّ قسماً كبيراً من السكان مطلوبون في أفرع النظام الأمنية بتهمٍ مختلفة، بينها المشاركة في التظاهرات، التحريض، النيل من هيبة الدولة، وحتى الانشقاق والهروب من الخدمة العسكرية، وصولاً إلى تُهم الإرهاب التي يطلقها النظام على كثير من أهالي المنطقة المعارضين له".
اقرأ أيضاً: الزبداني تستغيث لحماية المدنيين والكوادر الطبية