بداية لا أعرف ما هو الزمن أصلاً، لكنني أعرف حضوره الطاغي في أعماقي كلما ركبتُ قطاراً -القطار اختراع شاعري بامتياز- لدرجة لا أجد معها تفسيراً لهذا الزمن العجيب الغريب، إذ ثمة ارتباط بينه وبين القطار.
ولك أن تشعر بهذا "الزمن القطاري" إذا ما تخيلت نفسك الآن في رحلة في قطار يعبر بك أماكن شديدة التنوّع والاختلاف كالفسيفساء، أو حاول أن تتذكر آخر مرة ركبت فيها قطاراً، وحبذا لو كنت جالساً في اتجاه معاكس لاتجاه سير القطار وتتخيل نفسك جالساً باتجاه معاكس لسير الزمن، فتبدو لك الأشياء أشبه بشريط سينمائي طويل غني بالألوان والأصوات والحركات.
كل نظرة من النافذة لقطة بعينها أو "كادر" باذخ يتغيّر بطريقة يتعذر فيها الإمساك بالأشياء (المنفلشة) من الزمن. كل شيء يتغير في تناغم كلي، وداخل كل كادر حياة مستقلة بذاتها، وثمة شيء يلفت انتباهك أكثر من غيره داخل هذا الكادر، يمر عليك فتضطر إلى أن تلوي عنقك مثلاً لتتابع تباعده إلى أن يصبح نقطة سرعان ما تختفي في بطن الزمن، ثم ينهض كادر آخر وهكذا دواليك في متتالية زمنية ساحرة أقرب إلى "ميزان سين" السينما.
وللقطار علاقة بالزمن من حيث هو انتظار، انتظار موعد الرحلة أو شخص ما، كما أنه أكثر ارتباطا من غيره بتلويحة الوداع، إذ تتبع عينيك جميع عربات القطار في نظرة واحدة للذي رحل قبل هنيهة، ملوّحاً بيدك طويلاً إلى أن تغادر عَربة المُودَّع وكأنه راحل إلى الأبد، وكأنه راحل في الزمن.
في رواية "مومو" للألماني ميخائيل إنده، نقرأ: "مومو تأتي من المكان الذي يأتي منه الزمن.. إلى غابة الساعات، وهي قاعة بطوابق متعددة مليئة بما لا يخطر على ذهنك من أنواع وأحجام الساعات، في سخرية مريرة من الزمن الذي صار فيه الوقت كل شيء واختفت معه أزمنة البطء الجميلة. لكن، رغم كل هذه الساعات الكثيرة إلا أنها لا تُقرّب لنا فكرة الزمن مثلما في القطار، لأن زمن القطار حاضر دوماً فيما زمن الساعات لا حاضر له، إنه ماض على الدوام فمجرد أن أنتهي من قراءة الكلمة التالية مثلاً تصبح ماضياً لأن الحاضر ينسرب دوماً كزمن عقارب الساعة، أما زمن القطار فمديد مثل زمن الطفولة لذلك تتعجب الطفلة مومو -وهي الصامتة المتأملة في معظم الأوقات لأن الناس تأتي إليها لتبث لها أفراحها وأتراحها- من أنه لم يعد لدى الناس الوقت لحكاية الحكايات أو للاستماع إلى بعضهم بعضاً أو لتأمل جمال الطبيعة مثلاً، لذلك يمرض الناس بالزمن، لأنه زمن لا علاقة له بزمن الطفولة ولا بزمن القطار".
وفي الحكاية التي تحكى عن أينشتاين حينما سألته حبيبته أن يبسط لها فكرة الزمن في نظريته النسبية المعقدة، ردّ عليها بالكلمات التالية: "حينما تجلس فوق موقد ساخن لمدة دقيقة تظنها ساعة، ولكن حينما تجلس مع من تحب لمدة ساعة تظنها دقيقة، هذه هي النسبية يا حبيبتي"، لكن هذه "الفلسفة الفيزيائية" لا تقترب كثيراً من فكرة الزمن في القطار الذي هو لا نسبي لأنه زمن واحد، زمن القطار.
إذا لم يسبق لك أن ركبتَ قطاراً، فانطلق وشاهد كيف أن زمنك حاضر بقوة في القطار، وستسمع في داخلك صوتاً آتياً من أعماق أعماقك، ليضعك أمام فكرة تراها رأي العين: إنه الزمن في القطار!
رحلة قصيرة
الحياة رحلة قصيرة في قطار
إلى ريف بعيد
بصحبة فتاة ذات جمال حزين
الموسيقى تصدح في الغابة
النبيذ يتدلّى من الكروم
والنهر يمشي كالزمان
على إيقاع قُبل مخطوفة
وحين تُحاذي الشمس
الأشجار الناعسة
يجلسان إلى حانة المساء
بضحكة مدوّية
سيدة الحانة تتأمل جمالها الغارب
فتفيض الكؤوس وتُقرع
بقوة الحياة الفاتنة
وفي ضوء النجوم المُزقزقة كالعصافير
يصيرا واحداً
كالليل
كالغابة
كسيدة الحانة
وقد طوّقتها رحلة الزمان!