يفتح الرجل الخمسيني قميصه تأفّفاً من حرّ بيروت، ولا يفقد شيئاً من أناقته. نعم، سائق التاكسي الأنيق يبدو وكأنّه قضی ساعات أمام المرآة قبل أن يركب سيارته العتيقة التي تكاد تحملنا إلى أماكننا المقصودة، وينطلق إلی العمل.
لا تقتصر جاذبية السائق علی أناقته وابتسامته الواسعة. يجيد اللغة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية وقليلاً من اليابانية. يتحدّث بطلاقة مع السواح الأجانب. يشرح لهم جمال لبنان، ويغمزني قائلاً: "هنّي شايفين مناطق لبنان أكتر منّي ومنّك".
يسألهم عن أحوال بلادهم أيضاً. يصحّح لهم معلوماتهم الجغرافية عن بلادهم أحياناً. يتحدّث عن هوس الناس بالمسافات وعن إهمالهم للتفاصيل القريبة رغم جمالها. يقول إنّ "الأجانب يعرفون لبنان أكثر مني وأنا أعرف بلادهم أكثر منهم".
لا تقتصر معرفة السائق علی اللغات فقط، بل تتعداها إلی اتقان اللهجات العربية المختلفة كالسورية والفلسطينية والأردنية والعراقية والخليجية بامتياز. يميّز حتى بين أبناء البلد الواحد حسب لكناتهم. يؤكد أنّ لكل محافظة داخل البلد الواحد لكنة مختلفة. يعتبر أنّ "اللغة تحدّد هويتنا الوطنية الكبری، واللكنة تميّزنا وهي الهوية الحقيقية". يرفض الإعتراف بهوية واحدة داخل الوطن الواحد. يعتبر أن الإختلاف هو الذي يصنع وطناً أجمل ويجعلنا لا نمّل من أنفسنا. قال لي: "تخيّلي مليون بشري يمرّون في الشارع نفسه الذي تمرين فيه ويتكلّمون باللكنة نفسها ويشدّون ويرخون علی الحروف بالطريقة ذاتها". تنهّد لبرهة وتابع:"ستنكرين فمك ولن تعرفي صوتك". الجمال في الاختلاف.
سألته عن سرّ معرفته للغات المختلفة وإلمامه باللكنات. قال إنّه كان أستاذ ثانوي. وكان يدرّس مادة الجغرافيا منذ عشرين عاماً، وبعدما رزق بالأولاد اعتبر أنّ والده كان محقاً بعبارة "التعليم ما بيطعمي خبز". عمل سائق كميون في مجال الاستيراد والتصدير. الأمر الذي سهّل مروره في الكثير من البلاد العربية وبالتالي اتقانه للهجاتها. أما اللغة فهي هوس قديم منذ أيام الشباب.
أخبرني أنه كان يهرب من مدرسته في البقاع ويأتي إلی بيروت. كان فقيراً جداً حينها، ويستدرك بالقول "بيروت كانت أم الفقراء". يشاهد السينما ويسجل نفسه في معاهد لتعليم اللغات ويتناول "فلافل" من مطعميْ فريحة وصهيون ببضع ليرات. لا يعود معظم الأحيان إلی منزله في البقاع مساء خوفاً من "الفلقة" من والده. ينام علی بلاط تمثال الشهداء في وسط بيروت الذي كان "أنظف من بيوتنا" كما يصفه. ولا يستيقظ إلاّ للهرب هو ورفاقه من "فرقة الـ 16".
يشتم السياسيين الذين لم يعرفوا قيمة البلد وحوّلوا "وسط المدينة" إلی "مدينة للأشباح". يخبرني أنّه زوّج أولاده الخمسة، ويملك بيتاً وأرضاً في البقاع تكفيه هو وزوجته، ولكنّه يرفض العودة. لا يستطيع مغادرة بيروت. "يختنق" إذا غادر هذه المدينة. قال لي: "العقل هونيك، بس القلب هون..القلب ببيروت".
لا تقتصر جاذبية السائق علی أناقته وابتسامته الواسعة. يجيد اللغة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية وقليلاً من اليابانية. يتحدّث بطلاقة مع السواح الأجانب. يشرح لهم جمال لبنان، ويغمزني قائلاً: "هنّي شايفين مناطق لبنان أكتر منّي ومنّك".
يسألهم عن أحوال بلادهم أيضاً. يصحّح لهم معلوماتهم الجغرافية عن بلادهم أحياناً. يتحدّث عن هوس الناس بالمسافات وعن إهمالهم للتفاصيل القريبة رغم جمالها. يقول إنّ "الأجانب يعرفون لبنان أكثر مني وأنا أعرف بلادهم أكثر منهم".
لا تقتصر معرفة السائق علی اللغات فقط، بل تتعداها إلی اتقان اللهجات العربية المختلفة كالسورية والفلسطينية والأردنية والعراقية والخليجية بامتياز. يميّز حتى بين أبناء البلد الواحد حسب لكناتهم. يؤكد أنّ لكل محافظة داخل البلد الواحد لكنة مختلفة. يعتبر أنّ "اللغة تحدّد هويتنا الوطنية الكبری، واللكنة تميّزنا وهي الهوية الحقيقية". يرفض الإعتراف بهوية واحدة داخل الوطن الواحد. يعتبر أن الإختلاف هو الذي يصنع وطناً أجمل ويجعلنا لا نمّل من أنفسنا. قال لي: "تخيّلي مليون بشري يمرّون في الشارع نفسه الذي تمرين فيه ويتكلّمون باللكنة نفسها ويشدّون ويرخون علی الحروف بالطريقة ذاتها". تنهّد لبرهة وتابع:"ستنكرين فمك ولن تعرفي صوتك". الجمال في الاختلاف.
سألته عن سرّ معرفته للغات المختلفة وإلمامه باللكنات. قال إنّه كان أستاذ ثانوي. وكان يدرّس مادة الجغرافيا منذ عشرين عاماً، وبعدما رزق بالأولاد اعتبر أنّ والده كان محقاً بعبارة "التعليم ما بيطعمي خبز". عمل سائق كميون في مجال الاستيراد والتصدير. الأمر الذي سهّل مروره في الكثير من البلاد العربية وبالتالي اتقانه للهجاتها. أما اللغة فهي هوس قديم منذ أيام الشباب.
أخبرني أنه كان يهرب من مدرسته في البقاع ويأتي إلی بيروت. كان فقيراً جداً حينها، ويستدرك بالقول "بيروت كانت أم الفقراء". يشاهد السينما ويسجل نفسه في معاهد لتعليم اللغات ويتناول "فلافل" من مطعميْ فريحة وصهيون ببضع ليرات. لا يعود معظم الأحيان إلی منزله في البقاع مساء خوفاً من "الفلقة" من والده. ينام علی بلاط تمثال الشهداء في وسط بيروت الذي كان "أنظف من بيوتنا" كما يصفه. ولا يستيقظ إلاّ للهرب هو ورفاقه من "فرقة الـ 16".
يشتم السياسيين الذين لم يعرفوا قيمة البلد وحوّلوا "وسط المدينة" إلی "مدينة للأشباح". يخبرني أنّه زوّج أولاده الخمسة، ويملك بيتاً وأرضاً في البقاع تكفيه هو وزوجته، ولكنّه يرفض العودة. لا يستطيع مغادرة بيروت. "يختنق" إذا غادر هذه المدينة. قال لي: "العقل هونيك، بس القلب هون..القلب ببيروت".