23 مايو 2017
السعودية.. نهاية عصر المماثلة
عند قراءة سرديّة تأسيس المملكة العربية، كما كتبها الرواة المعتمدون، يتضح حجم المثالية التي كانوا يرسمونها عن الحركة الدينية "الإصلاحية" التي قادها الإمام محمد بن عبد الوهاب. خصوصاً، لجهة تصويرها الوضع الديني في الجزيرة العربية قبل الدعوة، وكيف تفشّت فيها عباداتٌ كفرية، كعبادة القبور والقدور.
بعد اكتمال التوحيد، استقرّ الوضع في المملكة، فاستثمرت الدعوة الوهابية مساهمتها الإيديولوجية في التأسيس، لمصلحة نشر أفكارها أكثر، محلياً وعالمياً، فأخذت لنفسها مساحةً واسعةً داخل النظام، تحديداً فيما يتعلق بالجانبين، الديني والاجتماعي. فكان لها ما أرادت، مع استثناءاتٍ كان الملوك يشعرون بأنها تضرّ بالحكم مباشرةً، كقضية تعليم البنات، أو السماح باستيراد السيارات والراديو. لكن، في المجمل، تركت الحكومة للدعاة الذين تحدروا من شجرة الوهابية الحرية المطلقة، كي يمارسوا سلطتهم على الساحتين، الدينية والاجتماعية.
بعد اكتشاف النفط، جرى تحديث مؤسساتٍ كثيرة في المملكة. ومع مطلع السبعينيات، تزامناً مع الطفرة النفطية الأولى، سارت أحوال كثيرة بشكل متناقض. ازدادت أعداد المتعلمين، وازدادت نسبة الطبقة الوسطى، وظهرت طبقةٌ بورجوازية، وبورجوازية عليا، لكن طبقة مشايخ الدين كذلك تضاعفت، بفضل الأموال التي تحصلت عليها الأجهزة الدينية التي تشرف عليها المؤسسة الدينية الرسمية، فأصبحت هذه المؤسسة أحد أهم المواقع البيروقراطية القادرة على استثمار الإيديولوجية الدينية، وتحويلها قوة اجتماعية. نجحت هذه القوة فيما بعد، في ممارسة ضغوط فعلية في وجه الانتقال نحو الحداثة أو التمدين. أعطيت هذه الشريحة، في زمن ما يعرف حالياً "زمن الصحوة" مساحةً واسعة للتحرك، والعمل على تدجين المجتمع، وجعله نسخاً متماثلةً، ليس سلوكياً فقط، ولكن حتى على مستوى الملبس، فنجحت في بعض المناطق، وفشلت في أخرى.
بعد فشل حركة جهيمان في احتلال الحرم، ثم نجاح الثورة الإسلامية في إيران، والتي طرحت تحدياً جديداً على المملكة، هو وجود دولة دينية، تتبنّى مذهباً منافساً للسلفية، وتنافس السعودية على الإسلام، وجدت الحكومة أن من المناسب لها أن تفتح الباب على مصراعيه، أمام الكل القوى السلفية، لكي تسيطر على حركة المجتمع، لتمنعه من الاتجاه نحو مطالب إصلاحية جدية، قد تشمل عمل المرأة ووضعها القانوني، أو حتى على مستوى الحريات الاجتماعية، كالتدخين، أو وجود النساء والرجال في مكان عمل واحد، وهي أمور أصبحت محرجةً للمملكة، ولصورتها أمام العالم، وتعرّضها لضغوط دولية، بل أكثر من ذلك يتطلب تعديل مثل هذه الأوضاع القانونية المشوّهة تبني قراراتٍ يجد الناس أنها تناقض تدينهم الذي تعلموه في المدراس، وسمعوه في خطب الجمعة.
في الأسابيع القليلة الماضية، حدثت أمورٌ كثيرة تثبت تمكّن هذه الفئة من التأثير على القرارات التي تمس الحريات الاجتماعية للمواطنين، وتؤكد استجابة الحكومة لمطالبهم، ولو على حساب حرية المواطنين. في منطقة الدرعية، في العاصمة الرياض، أغلقت الحكومة مطعماً، وحوّلت العاملين فيه إلى التحقيق والادعاء العام؛ بسبب تقديم المطعم مقطوعات غنائية بجانب الطعام، ما استثار حفيظة التيار الديني الذي مارس دوره التقليدي، بالتحريض على صاحب المطعم، فقاد إلى إغلاقه. وسابقاً مارس التيار تحريضاً علنياً على رموز حملة قيادة المرأة السيارة، وكذلك الحملة التي استمرت، أخيراً، أكثر من مائة يوم، وطالبت بنزع ولاية الرجل على المرأة، وهي قضية جوهرية، تمسّ حرية عمل المرأة، وتنقلها، واختيارها شريك حياتها، مهما بلغت من العمر.
في كل مرةٍ، تتعرّض المملكة لحملة خارجية، نتيجة احتضانها الدعوة الوهابية، تخرج بحزمةٍ من القرارات الشكلية التي تظهر وكأن مرحلةً انتقالية على وشك أن تبدأ، سوف تتقلص على إثرها مساحة تغول هذه الشريحة، وتحدّ من صلاحياتها، كما فعلت مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي بعد صدور قرار عدم خروج عناصرها من مقرّاتهم، إلا في حال استلام بلاغ رسمي، انتشر لها مقطعٌ في مجمع الحياة في الرياض، وهي تطارد مواطنة.
المفاجأة غير السارة لدعاة الحريات الشخصية تكمن في نجاح هذا التيار، مستغلاً صمت الحكومة من تعويم القرارات، لصالح خيارهم الاجتماعي، على الرغم من أنف جميع الفئات الاجتماعية الأخرى. تلك الفئات المتنوعة ثقافياً ودينياً، والتي تجد أن الزمن تجاوز الأحادية الفكرية التي تفرض امتثالاً لأوامر الدعوة الوهابية، وترفض أن يُحجب التنوع الثقافي السعودي لصالح إيديولوجية دينية واحدة. بل خرجت مظاهر احتجاج ذات طابع متطرف على نوعية التديّن المفروضة، حيث انتشر مقطع مصوّر لفتاة وشاب، وهما يجاهران بشرب الكحول، ويتراقصان في الشارع، وهي صورة غير مألوفة في المملكة.
لم يمر على المملكة طوفان الربيع العربي، ولم تستثر سياسة التقشف الطبقات الاجتماعية الفقيرة، لكن الفئة الميسورة هي اليوم من تحمل راية رفض المماثلة التي تسعى الوهابية إلى هندسة المجتمع من خلالها.
بعد اكتمال التوحيد، استقرّ الوضع في المملكة، فاستثمرت الدعوة الوهابية مساهمتها الإيديولوجية في التأسيس، لمصلحة نشر أفكارها أكثر، محلياً وعالمياً، فأخذت لنفسها مساحةً واسعةً داخل النظام، تحديداً فيما يتعلق بالجانبين، الديني والاجتماعي. فكان لها ما أرادت، مع استثناءاتٍ كان الملوك يشعرون بأنها تضرّ بالحكم مباشرةً، كقضية تعليم البنات، أو السماح باستيراد السيارات والراديو. لكن، في المجمل، تركت الحكومة للدعاة الذين تحدروا من شجرة الوهابية الحرية المطلقة، كي يمارسوا سلطتهم على الساحتين، الدينية والاجتماعية.
بعد اكتشاف النفط، جرى تحديث مؤسساتٍ كثيرة في المملكة. ومع مطلع السبعينيات، تزامناً مع الطفرة النفطية الأولى، سارت أحوال كثيرة بشكل متناقض. ازدادت أعداد المتعلمين، وازدادت نسبة الطبقة الوسطى، وظهرت طبقةٌ بورجوازية، وبورجوازية عليا، لكن طبقة مشايخ الدين كذلك تضاعفت، بفضل الأموال التي تحصلت عليها الأجهزة الدينية التي تشرف عليها المؤسسة الدينية الرسمية، فأصبحت هذه المؤسسة أحد أهم المواقع البيروقراطية القادرة على استثمار الإيديولوجية الدينية، وتحويلها قوة اجتماعية. نجحت هذه القوة فيما بعد، في ممارسة ضغوط فعلية في وجه الانتقال نحو الحداثة أو التمدين. أعطيت هذه الشريحة، في زمن ما يعرف حالياً "زمن الصحوة" مساحةً واسعة للتحرك، والعمل على تدجين المجتمع، وجعله نسخاً متماثلةً، ليس سلوكياً فقط، ولكن حتى على مستوى الملبس، فنجحت في بعض المناطق، وفشلت في أخرى.
بعد فشل حركة جهيمان في احتلال الحرم، ثم نجاح الثورة الإسلامية في إيران، والتي طرحت تحدياً جديداً على المملكة، هو وجود دولة دينية، تتبنّى مذهباً منافساً للسلفية، وتنافس السعودية على الإسلام، وجدت الحكومة أن من المناسب لها أن تفتح الباب على مصراعيه، أمام الكل القوى السلفية، لكي تسيطر على حركة المجتمع، لتمنعه من الاتجاه نحو مطالب إصلاحية جدية، قد تشمل عمل المرأة ووضعها القانوني، أو حتى على مستوى الحريات الاجتماعية، كالتدخين، أو وجود النساء والرجال في مكان عمل واحد، وهي أمور أصبحت محرجةً للمملكة، ولصورتها أمام العالم، وتعرّضها لضغوط دولية، بل أكثر من ذلك يتطلب تعديل مثل هذه الأوضاع القانونية المشوّهة تبني قراراتٍ يجد الناس أنها تناقض تدينهم الذي تعلموه في المدراس، وسمعوه في خطب الجمعة.
في الأسابيع القليلة الماضية، حدثت أمورٌ كثيرة تثبت تمكّن هذه الفئة من التأثير على القرارات التي تمس الحريات الاجتماعية للمواطنين، وتؤكد استجابة الحكومة لمطالبهم، ولو على حساب حرية المواطنين. في منطقة الدرعية، في العاصمة الرياض، أغلقت الحكومة مطعماً، وحوّلت العاملين فيه إلى التحقيق والادعاء العام؛ بسبب تقديم المطعم مقطوعات غنائية بجانب الطعام، ما استثار حفيظة التيار الديني الذي مارس دوره التقليدي، بالتحريض على صاحب المطعم، فقاد إلى إغلاقه. وسابقاً مارس التيار تحريضاً علنياً على رموز حملة قيادة المرأة السيارة، وكذلك الحملة التي استمرت، أخيراً، أكثر من مائة يوم، وطالبت بنزع ولاية الرجل على المرأة، وهي قضية جوهرية، تمسّ حرية عمل المرأة، وتنقلها، واختيارها شريك حياتها، مهما بلغت من العمر.
في كل مرةٍ، تتعرّض المملكة لحملة خارجية، نتيجة احتضانها الدعوة الوهابية، تخرج بحزمةٍ من القرارات الشكلية التي تظهر وكأن مرحلةً انتقالية على وشك أن تبدأ، سوف تتقلص على إثرها مساحة تغول هذه الشريحة، وتحدّ من صلاحياتها، كما فعلت مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي بعد صدور قرار عدم خروج عناصرها من مقرّاتهم، إلا في حال استلام بلاغ رسمي، انتشر لها مقطعٌ في مجمع الحياة في الرياض، وهي تطارد مواطنة.
المفاجأة غير السارة لدعاة الحريات الشخصية تكمن في نجاح هذا التيار، مستغلاً صمت الحكومة من تعويم القرارات، لصالح خيارهم الاجتماعي، على الرغم من أنف جميع الفئات الاجتماعية الأخرى. تلك الفئات المتنوعة ثقافياً ودينياً، والتي تجد أن الزمن تجاوز الأحادية الفكرية التي تفرض امتثالاً لأوامر الدعوة الوهابية، وترفض أن يُحجب التنوع الثقافي السعودي لصالح إيديولوجية دينية واحدة. بل خرجت مظاهر احتجاج ذات طابع متطرف على نوعية التديّن المفروضة، حيث انتشر مقطع مصوّر لفتاة وشاب، وهما يجاهران بشرب الكحول، ويتراقصان في الشارع، وهي صورة غير مألوفة في المملكة.
لم يمر على المملكة طوفان الربيع العربي، ولم تستثر سياسة التقشف الطبقات الاجتماعية الفقيرة، لكن الفئة الميسورة هي اليوم من تحمل راية رفض المماثلة التي تسعى الوهابية إلى هندسة المجتمع من خلالها.