12 مايو 2019
السفر بالرفيق والحياة بالتعارف
إجلال البيل (اليمن)
اخترنا رفقاء السفر وقررّنا الذهاب، بعد أن تجنّبنا السفر سنوات بسبب المخاطر الأمنية والنقاط الحوثية التي تنتشر بشكل مريع في الطرقات، والتي قد تعرقل سفرنا لأسباب كثيرة، تراها صائبة ومنطقية. إلا أن الحال لم يتغيّر منذ سنوات، فلماذا نوقف الحياة في نفوسنا، ولا ننعم ببعض الراحة، حتى وإن كان الوصول إليها صعبًا، لذا قررنا المجازفة والسفر إلى وجهة محددة.
تركنا المدينة، ونحن متأبهات لسفر طويل وطريق مُتعِب، وذلك في شهر رمضان، وما فيه من ظمأٍ وتعب، لكن ذلك لن يغدو شيئًا، إذا وصلنا إلى وجهتنا بأمان.
حين تنتقل من مدينة إلى أخرى، ومن طقس إلى آخر، وتعبُر الجبال الخضراء، ثم ما تلبث أن تصِل إلى جبال شاحبة لم يسقها الغيث منذ شهور طويلة، تتعجّب لهذه البلاد العجيبة المختلفة. لم نكن قد قطعنا مسافة طويلة، حين وصلنا إلى محافظة أغدقت عليها السماء بسيول غزيرة، كان السائق يقود بهدوء خشية الإنزلاق، وأن يجرفنا السيل إلى الهاوية. غادرنا المدينة ونفوسنا رطبة، بعد هذا المنظر الجمالي المُلهِم والمبهج. بدأت درجة الحرارة ترتفع، والرياح الباردة تختفي رويدًا رويدا، وكأننا لم نر المطر قط قبل دقائق من مغادرتنا المدينة الماطرة!
"أنا رفيقة سيئة بالسفر، كل لحظة ستلتفت فيها إلي ستجدني نائمة". دائمًا ما أكرر عبارتي هذه في كل سفر، إلا أن هذه المرة فوجئت من نفسي. مرت أربع ساعات في الطريق، وأنا لم أنم لحظة، بل متزنة وبكامل وعيي وإدراكي، وأنا أتأمل الطريق شبرا شبرا وجبلا جبلا، وهذا ما جعل نفسيتي مرتاحة بعض الشيء.
وضعت رأسي على المقعد، وأنا أرى من النافذة هذه البلاد المُجهَدة، ولم أستوعب كيف أن عظمتها لم تُستغل ولم تشكِل فارقًا لكل من حكموها، بل على مدى سنوات طويلة، تتعرّض للإفقار، حتى غدت بلادًا منهكة، وفقيرة، تستجدي تعاطف دولٍ كثيرة.
غفوت قليلًا غفوة تشبه اليقظة، بعد أن قطعنا عشرات الكيلومترات، خُيّل إلي أننا وصلنا إلى يمن جديد، استوقفتنا نقطة أمنية يجلس بها رجلان من الأمن، ببزتهما العسكرية المعروفة، وعلم اليمن يرفرف عاليًا ولا شيء سواه في هذه النقطة، تكسو ملامحهم التعب، لكنهم بَدَوا لي سعداء وهم يمارسون عملهم بإخلاص. بجانبهم شاب يلبس القميص والمعوز اليمني وبيديه كثير من عقود الفل، كان يدندن بجانب رجلي الأمن: "نشتي نبيع الفل لكل ولهان"، فاشترينا ثلاثة عقود من الفل، ورحنا نغني طول الطريق "نشتي نبيع الفل لكل ولهان".
لنعد إلى الرجلين، لم يفتشا السيارة، ولم يسألا مطولا كما كان يحدث سابقًا، بل ابتسما وقالا في أمان الله. مرت ساعة ونصف على مغادرتنا تلك النقطة الأمنية. ولم يستوقف طريقنا سوى بعض باعة الطريق ممن يبيعون الجزر والمشمش والقات على طرقات السفر، ووجود مثل هؤلاء الباعة يوحي بالأمان والمسرّة والحياة.
تطلّعنا كثيرا وحلمنا: ماذا سنفعل حين نصِل إلى مدينة جديدة؟ لم نصب بأذى، إلا قليلا من التعب الذي يصيب المسافر بعد ساعات طويلة قضاها في السيارة، إضافة إلى ذلك كانت الطريق آمنة وكنّا نترجل من السيارة إذا ما رأينا منظرا جميلا، لقد كانت رحلة سعيدة واكتشفنا مناطق كثيرة لم نزرها أو نعرفها من قبل.
فجأة، يصطدم السائق بمطبًّ كبير، فاستيقظتُ من غفوتي، لأتفاجأ بأن تلك البلاد الجميلة كانت مجرد حلم، وأن الرجلين الذين استوقفانا في تلك النقطة الأمنية، وهما يلوّحان بيديهما لنا، ويقولان في أمان الله، كانت أضغاث أحلام.
توقّفنا فعلًا هذه المرة في نقطة حوثية فيها مسلّحون كثيرون، لا وجود لعلم اليمن، بل مجموعة من الصور والشعارات الخضراء المعروفة، وبدأ يسأل الرجل، وهو يبحلق في وجوهنا: وين عتسيروا؟ ليجيب السائق: إلى عتق.. مع أن وجهتنا بالتأكيد ليست عتق، إلا أنه الخوف من أن يُعيدونا إلى نقطة الإنطلاق مرة أخرى، إذا ما أفصحنا عن وجهتنا.
عاود النظر إلينا أكثر من مرة، كنظرة المتفحص لشيء محدد، ويقول: وهذولا، مشِّن نسوان الدواعش؟!
قال له السائق: لا.
مرة أخرى، يسأل بطريقة همجية وكأننا جئنا من حقول الإرهاب: ما بش رسايل معاكم؟
والإجابة بالطبع مرة أخرى لا.
كان الوقت على وشك آذان المغرب، ما يعني وقت الإفطار، لذا لم نتعرّض للوقوف طويلا في كل نقطة كنا نمرُّ فيها، كانوا منشغلين بالإفطار. ومع ذلك لم ننجُ من الأسئلة والوقوف أمامهم كأننا مجرمون.
غادرنا كل نقاطهم، وتنفّسنا الصعداء، بأننا نجونا منهم، ثم رحت أغني: "نشتي نبيع الفل لكل ولهان".
على أمل أننا سنعيش تلك اللحظات التي يعود فيها الوطن، ولا نرى إلا بائعي الفل والجزر والقات على الطرقات، والرجال الذين يحرسون أمن الوطن بالفعل.
تركنا المدينة، ونحن متأبهات لسفر طويل وطريق مُتعِب، وذلك في شهر رمضان، وما فيه من ظمأٍ وتعب، لكن ذلك لن يغدو شيئًا، إذا وصلنا إلى وجهتنا بأمان.
حين تنتقل من مدينة إلى أخرى، ومن طقس إلى آخر، وتعبُر الجبال الخضراء، ثم ما تلبث أن تصِل إلى جبال شاحبة لم يسقها الغيث منذ شهور طويلة، تتعجّب لهذه البلاد العجيبة المختلفة. لم نكن قد قطعنا مسافة طويلة، حين وصلنا إلى محافظة أغدقت عليها السماء بسيول غزيرة، كان السائق يقود بهدوء خشية الإنزلاق، وأن يجرفنا السيل إلى الهاوية. غادرنا المدينة ونفوسنا رطبة، بعد هذا المنظر الجمالي المُلهِم والمبهج. بدأت درجة الحرارة ترتفع، والرياح الباردة تختفي رويدًا رويدا، وكأننا لم نر المطر قط قبل دقائق من مغادرتنا المدينة الماطرة!
"أنا رفيقة سيئة بالسفر، كل لحظة ستلتفت فيها إلي ستجدني نائمة". دائمًا ما أكرر عبارتي هذه في كل سفر، إلا أن هذه المرة فوجئت من نفسي. مرت أربع ساعات في الطريق، وأنا لم أنم لحظة، بل متزنة وبكامل وعيي وإدراكي، وأنا أتأمل الطريق شبرا شبرا وجبلا جبلا، وهذا ما جعل نفسيتي مرتاحة بعض الشيء.
وضعت رأسي على المقعد، وأنا أرى من النافذة هذه البلاد المُجهَدة، ولم أستوعب كيف أن عظمتها لم تُستغل ولم تشكِل فارقًا لكل من حكموها، بل على مدى سنوات طويلة، تتعرّض للإفقار، حتى غدت بلادًا منهكة، وفقيرة، تستجدي تعاطف دولٍ كثيرة.
غفوت قليلًا غفوة تشبه اليقظة، بعد أن قطعنا عشرات الكيلومترات، خُيّل إلي أننا وصلنا إلى يمن جديد، استوقفتنا نقطة أمنية يجلس بها رجلان من الأمن، ببزتهما العسكرية المعروفة، وعلم اليمن يرفرف عاليًا ولا شيء سواه في هذه النقطة، تكسو ملامحهم التعب، لكنهم بَدَوا لي سعداء وهم يمارسون عملهم بإخلاص. بجانبهم شاب يلبس القميص والمعوز اليمني وبيديه كثير من عقود الفل، كان يدندن بجانب رجلي الأمن: "نشتي نبيع الفل لكل ولهان"، فاشترينا ثلاثة عقود من الفل، ورحنا نغني طول الطريق "نشتي نبيع الفل لكل ولهان".
لنعد إلى الرجلين، لم يفتشا السيارة، ولم يسألا مطولا كما كان يحدث سابقًا، بل ابتسما وقالا في أمان الله. مرت ساعة ونصف على مغادرتنا تلك النقطة الأمنية. ولم يستوقف طريقنا سوى بعض باعة الطريق ممن يبيعون الجزر والمشمش والقات على طرقات السفر، ووجود مثل هؤلاء الباعة يوحي بالأمان والمسرّة والحياة.
تطلّعنا كثيرا وحلمنا: ماذا سنفعل حين نصِل إلى مدينة جديدة؟ لم نصب بأذى، إلا قليلا من التعب الذي يصيب المسافر بعد ساعات طويلة قضاها في السيارة، إضافة إلى ذلك كانت الطريق آمنة وكنّا نترجل من السيارة إذا ما رأينا منظرا جميلا، لقد كانت رحلة سعيدة واكتشفنا مناطق كثيرة لم نزرها أو نعرفها من قبل.
فجأة، يصطدم السائق بمطبًّ كبير، فاستيقظتُ من غفوتي، لأتفاجأ بأن تلك البلاد الجميلة كانت مجرد حلم، وأن الرجلين الذين استوقفانا في تلك النقطة الأمنية، وهما يلوّحان بيديهما لنا، ويقولان في أمان الله، كانت أضغاث أحلام.
توقّفنا فعلًا هذه المرة في نقطة حوثية فيها مسلّحون كثيرون، لا وجود لعلم اليمن، بل مجموعة من الصور والشعارات الخضراء المعروفة، وبدأ يسأل الرجل، وهو يبحلق في وجوهنا: وين عتسيروا؟ ليجيب السائق: إلى عتق.. مع أن وجهتنا بالتأكيد ليست عتق، إلا أنه الخوف من أن يُعيدونا إلى نقطة الإنطلاق مرة أخرى، إذا ما أفصحنا عن وجهتنا.
عاود النظر إلينا أكثر من مرة، كنظرة المتفحص لشيء محدد، ويقول: وهذولا، مشِّن نسوان الدواعش؟!
قال له السائق: لا.
مرة أخرى، يسأل بطريقة همجية وكأننا جئنا من حقول الإرهاب: ما بش رسايل معاكم؟
والإجابة بالطبع مرة أخرى لا.
كان الوقت على وشك آذان المغرب، ما يعني وقت الإفطار، لذا لم نتعرّض للوقوف طويلا في كل نقطة كنا نمرُّ فيها، كانوا منشغلين بالإفطار. ومع ذلك لم ننجُ من الأسئلة والوقوف أمامهم كأننا مجرمون.
غادرنا كل نقاطهم، وتنفّسنا الصعداء، بأننا نجونا منهم، ثم رحت أغني: "نشتي نبيع الفل لكل ولهان".
على أمل أننا سنعيش تلك اللحظات التي يعود فيها الوطن، ولا نرى إلا بائعي الفل والجزر والقات على الطرقات، والرجال الذين يحرسون أمن الوطن بالفعل.
مقالات أخرى
11 مارس 2019
05 مارس 2019
10 فبراير 2019