09 نوفمبر 2024
السلطة في الجزائر والمطالب الاجتماعية
تدلّ ردود أفعال السّلطة في الجزائر تجاه المطالب الاجتماعية على أنّ ثمّة تجاهلا تامّا لتلك المطالب، بل تحويلا لها عن مسارها الاجتماعي، لتصبح، أحيانا، فوضى، وأحيانا أخرى، خطرا على التّماسك الاجتماعي، أو الوضع الداخلي للبلاد، وفق الخطاب الرسمي، دوما.
تحاول المقالة تحليل تعامل الجزائر مع المطالب الاجتماعية، وردّات فعلها تجاه الغليان الاجتماعي الذي شهدته بعض القطاعات، خصوصا التي تُعرف بنقاباتها القويّة على غرار الصّحة والتّربية والتّعليم، وذلك على خلفية الانسداد الذي أدّت إليه تلك المنهجية التعاملية بالتّجاهل للمطالب الاجتماعية.
معركة السّلم الاجتماعي ضد النقابات
يمكن للنظرة المتمعّنة لتعامل السّلطة مع المطالب الاجتماعية في الجزائر التوصّل إلى استنتاج مهم، وهو أنّ الريع النفطي حيوي في شراء التحالفات السياسية من الطبقة السياسية التي تعيش في مركز الحياة السياسية، أو التي تعيش على هامشها، من ناحية، كسبا للولاء أو الموالاة التامة. ومن ناحية أخرى، تليينا للمجتمع، بتقديم جرعات من الخدمات التي هي أساسا حقوق للمجتمع لدى السّلطة، ويتمّ ذلك عندما تتوفّر الأموال بارتفاع أسعار المحروقات التي هي الإنتاج/ المورد الوحيد للبلاد على مدى 60 عاما من الاستقلال.
أضحى النفط أداة إستراتيجية للسّلطة في الجزائر، لاستخدامه تحقيقا لتلك الأهداف، وارتبطت منهجية التعامل، وبالتالي التشدّد واللّين، بارتفاعه أو انخفاضه في السوق الدولية، حيث يوفر ذلك موارد أو يجفّفها، بين فترة وأخرى، ولذلك كله تبعات على سياسة السّلطة تجاه الطبقة السياسية والمجتمع، على حدّ سواء.
ومن تلك التبعات الانخراط في استخدام منهجية للتعامل بخريطة طريقٍ تتضمن السّلم
الاجتماعي، وسنّ قانون لفتح باب إنشاء نقابات مستقلّة (تم سنّ القانون في فترة انفتاح السّلطة في أعقاب مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 1988)، سرعان ما أغلق ليبقى التّعامل من منطلق شريك اجتماعي وحيد، وفق رؤية "المنّظمات الجماهيرية" (منظمات تدور في فلك السّلطة وتتبنى أيديولوجيتها وخطابها) التي سادت في فترة الحزب الواحد، من 1965 إلى 1988 ثم من 1999 إلى الآن، ولكن بمسمّيات أخرى (ويجمعها كلّها، الآن، مسمّى الموالاة).
في الحقيقة، تؤدي الأداتان الدور نفسه. ولكن بتراتبيةٍ تتوافق مع ارتفاع مداخيل الجزائر من المحروقات، ولكن بمنطق انغلاق السّلطة على مطالب المجتمع، إذ إن السّلم الاجتماعي هو إنفاق المال العام لتسكين المطالب الاجتماعية، في حين أن العمل النّقابي، باعتباره خيارا بديلا، هو لإبراز منهجية تفاوضية، ولكن برؤية تتجاهل المطالب، إذ تؤكد التّجربة إدارة للنّزاعات الاجتماعية، من دون منطق الوصول إلى استجابة للمطالب، بل دائما تستخدم السّلطوية في رفض التفاوض أو الرّأي الآخر، إلى حين توفّر مداخيل إضافية من المحروقات، إذا حدث ارتفاع في السوق الدولية.
تسكين الأزمات
من خلال ما تقدّم، يمكن التوصّل إلى إستراتيجية التّعامل مع الأزمات الاجتماعية وفق رؤية محورها التّسكين، وليس الحلّ. ولعلّ تجارب التعامل، في الأشهر الأخيرة، مع قطاعي التّربية والتّعليم، من ناحية، والصّحة (الأطباء المقيمون)، من ناحية ثانية، توفّر لنا أرضية للتّأكيد على مضامين تلك الإستراتيجية.
تدل تجربة التّعامل، في السنوات الأخيرة، مع المطالب الاجتماعية، على أن السّلطة تتّخذ قراراتها في تسيير شؤون البلاد بمنهجية المقرّر الوحيد من شريك من خارج دائرتها. وعلى هذا المنوال، يسير النسق السياسي برمّته في اتّخاذ القرارات. وبما أن السياسة العامة للبلاد، في كل الشؤون، تسير بهذه المنهجية القرارية، في نسق سياسي مغلق، غيّبت فيه مؤسسات التمثيل لمطالب المجتمع كما غيّب دور المجتمع المدني (أحزاب وجمعيات ونقابات) باعتبارها وسطاء في نقل المطالب الاجتماعية من القاعدة إلى القمّة، ولعب دور المفاوض قبولا ورفضا لتلك القرارات، فإن النّتيجة هي غياب تام لعملية التواصل/ الاتّصال، ما يعرّض القرارات للرّفض، عندما يصدم بها المجتمع من دون تصعيد لرأي المواطنين من الوسطاء المذكورين، وتأمين نقل موقفهم بطريقة "ديمقراطية"، أو على أقل تقدير، تشاورية خدمة للصّالح العام.
تتولّد عن تلك المنهجية أزمات اجتماعية، تتم إدارتها بالمنهجية نفسها، أي الاستمرار في اجترار تعمّد غلق النّسق السياسي من دون أي شريك، مع ترك هامش لتحرّكٍ ينتهي، دوما، بتسكين الأزمات، لتعود منطلقة، مرة أخرى، بعد فترة، عندما لا تسمح أموال السّلم الاجتماعي بتأجيلها/ ترحيلها. كما تتميّز تلك المنهجية التسييرية للأزمات الاجتماعية، منعا لأي هوامش لتحرّك خارج دائرة الإرادة التّامة والكاملة للسّلطة في غلق اللّعبة السياسية، بتعمّد الاستمرار في توكيل شريك وحيد مضمون، هو الاتحاد العمالي التابع للنظام، في الدخول لضمان سكوت المطالب الاجتماعية، وإظهار الرضا التام بالقرارات، مهما كانت جائرة، وخصوصا على الطبقات الهشّة والمهمّشة في المجتمع.
مثّل نموذجان للإضرابات، شهدتها الجزائر، أخيرا، تطبيقا حرفيا لتلك المنهجية، وهما قطاعان استراتيجيان، عرفت نقاباتهما المستقلة عن النقابة الرسمية بقوة الشخصيات التي تتحرك، لتمثيل مطالب المنتسبين إليها. ويتعلق الأمر، هنا، بقطاعي الصّحة والتّربية والتّعليم.
انطلقت الإضرابات في كلا القطاعين بسبب مشكلات/ مطالب بقيت من دون حل، وبعضها
جديد، ولكن بخلفيةٍ كلها قرارات تتخذ دونما استشارة للمنتسبين للقطاعين، من خلال ممثليهم النقابيين، باعتبار أنهم المعنيون بتلك القرارات وتبعاتهـا، وخصوصا منها ما يتعلق بتلك القرارات من تداعيات مالية (ضرائب، ارتفاع أسعار، تجميد لرفع الأجور، ترقيات بمشروطيات غير مقبولة لدى منتسبي القطاعين). وغالبا ما تنتهي تلك القرارات إلى التسبب بالإضرابات، تعبيرا عن رفضها، وغالبا ما تقابلها السلطة بالقضاء، مدخلا أول لمنع الإضراب، ثم باللجوء إلى إجراءات أكثر صرامةً كاقتطاعٍ من الأجور، عــزل للمضربين، وكلها إجراءات إقصائية من دون مخارج للمفاوضات، أو لتقريب وجهات النظر، بل ورفضا لأيّ وساطات لإدارة النزاع الاجتماعي، والاستجابة لتلك المطالب الاجتماعية.
وبتلك المنهجية، تنتهي تلك الإضرابات إلى مواجهاتٍ مع الأمن، بسبب منع الجزائر، منذ سنوات، التظاهرات في العاصمة (باعتباره إجراء تصعيديا مضادا لرفع المطالب إلى السلطات العليا وإشراك الرأي العام في تبنّي تلك المطالب)، وهو إجراء إضافي، يؤدّي إلى تأجيج تلك المشكلات، لتصبح نزاعا حقيقيا بأفق الانسداد. وبالتالي احتمال تطور النزاع للتأثير على الأوضاع العامة في البلاد، وهو الخط الأحمر الذي دونه ما شهدته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وتحفظ ذاكرة الجزائريين جيدا مآسيه من قتلى ومفقودين وضحايا بالآلاف.
تدليلا على مساوئ هذه المنهجية، يجب الحديث عن مخارج التسيير بالتجاهل لمطالب القطاعين، حيث جدّدت نقابات التربية والتعليم نداءاتها إلى إضرابات بعد العودة إلى العمل عقب عطلة الرّبيع، أي بداية شهر إبريل/ نيسان المقبل، في حين أن الأطّباء المقيمين قاطعوا امتحانات التخصّص، أخيرا، إضافة إلى احتمال استقالة جماعية منهم، بالنظر إلى التعامل المفرط في القوة معهم، من ناحية، وعدم قبول السلطة بمطالبهم، بعد أشهر من الإضرابات، من ناحية أخرى.
إدارة فاشلة
بعد إيراد ما سبق خريطة طريق السّلطة في إدارة الأزمات/ النّزاعات الاجتماعية، يمكن الوصول إلى استنتاج منظورها في معالجة المطالب الاجتماعية، في إطار نسق سياسي يرفض الاحتجاج، ويعتبره بادرة لرفض مسلكيّة النظام في التسيير، بل معارضة له، وهو ما يرفضه تماما بالنظر، أيضا، إلى ما تختزنه ذاكرته بشأن منهجية المعارضة، وما يمكن أن ينجرّ عنها من خسارة في الانتخابات، ووصول إلى منطق الانسداد، وشبح ما حدث في بداية يناير/ كانون الثاني 1992 بوقف المسار الانتخابي، والعودة إلى نقطة الصّفر في التحوّل نحو الديمقراطية، وما أدّى إليه من عشرية سوداء، أتت على الأخضر واليابس.
تقتضي الرؤية السويّة لمعالجة تلك المطالب تغييرا في النّسق السيّاسي بصفة جذرية، ليصبح نسقا بمنهجية تعاطٍ مع المطالب أخذا وردا، في إطار حوار مجتمعي، بعيدا عن الاستقطاب الذي مارسته السلطة بمنظورها الأحادي، وتأرجحها في اللجوء إلى شريك اجتماعي من رحمها، أو شراء السلم الاجتماعي بتسكين المطالب، بدلا من حل المشكلات، وبناء منظومات حوارية، تشاركية وتفاوضية قبل اتخاذ القرارات، وفي أثنائه وبعده، ومع فتح لمجال الوساطات من ممثلين حقيقيين لإرادة الناخبين على المستويات المحلية والوطنية (البرلمان بغرفتيه)
وبنقابات ومجتمع مدني يكونان أقوياء بممارسة سياسية منفتحة وغير إقصائية لأحد.
المسألة، بالنّتيجة، هي القبول بالعملية التحوّلية كلّها بتغيير أطر، بنى، مجموعات، قيادة وعمليات السّلطة السياسية (أسس عملية التحوّل السياسي وفق أدبيات "الموجات الديمقراطية" التي نظّر لها علماء السياسة الأميركيون، بالأساس). أو بمعنى آخر، هي التوافق على منهجية في الأخذ والرد مبني على قرارات تشاورية، في إطار إجماع سياسي، وبتغذية استرجاعية، وفق متطلبات العصر، أي القبول بمبدأ رفع المطالب، اللجوء إلى الإضراب والتفاوض، إلى حين حل المشكلات برمّتها.
تبنّي هذه المنهجية المؤسّسية والتسييرية كفيل بإعطاء نفس جديد لعملية التحول نحو الديمقراطية التي كانت الجزائر من أوائل البلدان في الذهاب إليها في نهاية عقد ثمانينيات القرن الماضي.
وإذا بقيت دار لقمان على حالها، فإن الخطر هو التسيير للمطالب الاجتماعية بين خيارين، الأسوأ والأسوأ منه، باعتبار أن إغلاق مجال الحوار مع المجتمع، من خلال منع المجتمع المدني، الأحزاب والنقابات، فانّ البدائل تكاد تكون معدومة للتّعامل مع المطالب الاجتماعية، إلا من باب السّلم الاجتماعي، أو النقابة التي تدور في فلك السّلطة، وكلا الخيارين هما، بالنتيجة، إدارة النزاعات لصنع الفشل الاجتماعي.
قد يكون هذا الحكم مفرطا في السوداوية، لكنّه لا يجانب الصواب، إذ إنه مبني على تشخيص منهجية التعامل مع المطالب الاجتماعية، إضافة إلى أنّ هذه المنهجية لا تؤدي، في نهايتها، إلا إلى الانسداد، وهو خطوة نحو التصعيد في منطق إدارة النزاعات الاجتماعية، وهو أمر مرفوض، تماما، من كل فئات المجتمع، لما تختزنه ذاكرتها من ألم تجاه تصعيدٍ أدى، في فترة ما، إلى وضع أمني صعب الاحتمال، وبتبعات ما زالت الجزائر تعاني منها.
وهناك مفاضلة أخرى، يمليها الأمل والقراءة المتأنّية للتحوّلات التي تحمل التقدم للمجتمعات، وهي المفاضلة بين الانفتاح والحوار وانخراط السلطة والمجتمع، كليهما، في خيار توافقي لتخطّي هذه المنهجيات التي لا تفيد في شيء وتجاوزها.
تحاول المقالة تحليل تعامل الجزائر مع المطالب الاجتماعية، وردّات فعلها تجاه الغليان الاجتماعي الذي شهدته بعض القطاعات، خصوصا التي تُعرف بنقاباتها القويّة على غرار الصّحة والتّربية والتّعليم، وذلك على خلفية الانسداد الذي أدّت إليه تلك المنهجية التعاملية بالتّجاهل للمطالب الاجتماعية.
معركة السّلم الاجتماعي ضد النقابات
يمكن للنظرة المتمعّنة لتعامل السّلطة مع المطالب الاجتماعية في الجزائر التوصّل إلى استنتاج مهم، وهو أنّ الريع النفطي حيوي في شراء التحالفات السياسية من الطبقة السياسية التي تعيش في مركز الحياة السياسية، أو التي تعيش على هامشها، من ناحية، كسبا للولاء أو الموالاة التامة. ومن ناحية أخرى، تليينا للمجتمع، بتقديم جرعات من الخدمات التي هي أساسا حقوق للمجتمع لدى السّلطة، ويتمّ ذلك عندما تتوفّر الأموال بارتفاع أسعار المحروقات التي هي الإنتاج/ المورد الوحيد للبلاد على مدى 60 عاما من الاستقلال.
أضحى النفط أداة إستراتيجية للسّلطة في الجزائر، لاستخدامه تحقيقا لتلك الأهداف، وارتبطت منهجية التعامل، وبالتالي التشدّد واللّين، بارتفاعه أو انخفاضه في السوق الدولية، حيث يوفر ذلك موارد أو يجفّفها، بين فترة وأخرى، ولذلك كله تبعات على سياسة السّلطة تجاه الطبقة السياسية والمجتمع، على حدّ سواء.
ومن تلك التبعات الانخراط في استخدام منهجية للتعامل بخريطة طريقٍ تتضمن السّلم
في الحقيقة، تؤدي الأداتان الدور نفسه. ولكن بتراتبيةٍ تتوافق مع ارتفاع مداخيل الجزائر من المحروقات، ولكن بمنطق انغلاق السّلطة على مطالب المجتمع، إذ إن السّلم الاجتماعي هو إنفاق المال العام لتسكين المطالب الاجتماعية، في حين أن العمل النّقابي، باعتباره خيارا بديلا، هو لإبراز منهجية تفاوضية، ولكن برؤية تتجاهل المطالب، إذ تؤكد التّجربة إدارة للنّزاعات الاجتماعية، من دون منطق الوصول إلى استجابة للمطالب، بل دائما تستخدم السّلطوية في رفض التفاوض أو الرّأي الآخر، إلى حين توفّر مداخيل إضافية من المحروقات، إذا حدث ارتفاع في السوق الدولية.
تسكين الأزمات
من خلال ما تقدّم، يمكن التوصّل إلى إستراتيجية التّعامل مع الأزمات الاجتماعية وفق رؤية محورها التّسكين، وليس الحلّ. ولعلّ تجارب التعامل، في الأشهر الأخيرة، مع قطاعي التّربية والتّعليم، من ناحية، والصّحة (الأطباء المقيمون)، من ناحية ثانية، توفّر لنا أرضية للتّأكيد على مضامين تلك الإستراتيجية.
تدل تجربة التّعامل، في السنوات الأخيرة، مع المطالب الاجتماعية، على أن السّلطة تتّخذ قراراتها في تسيير شؤون البلاد بمنهجية المقرّر الوحيد من شريك من خارج دائرتها. وعلى هذا المنوال، يسير النسق السياسي برمّته في اتّخاذ القرارات. وبما أن السياسة العامة للبلاد، في كل الشؤون، تسير بهذه المنهجية القرارية، في نسق سياسي مغلق، غيّبت فيه مؤسسات التمثيل لمطالب المجتمع كما غيّب دور المجتمع المدني (أحزاب وجمعيات ونقابات) باعتبارها وسطاء في نقل المطالب الاجتماعية من القاعدة إلى القمّة، ولعب دور المفاوض قبولا ورفضا لتلك القرارات، فإن النّتيجة هي غياب تام لعملية التواصل/ الاتّصال، ما يعرّض القرارات للرّفض، عندما يصدم بها المجتمع من دون تصعيد لرأي المواطنين من الوسطاء المذكورين، وتأمين نقل موقفهم بطريقة "ديمقراطية"، أو على أقل تقدير، تشاورية خدمة للصّالح العام.
تتولّد عن تلك المنهجية أزمات اجتماعية، تتم إدارتها بالمنهجية نفسها، أي الاستمرار في اجترار تعمّد غلق النّسق السياسي من دون أي شريك، مع ترك هامش لتحرّكٍ ينتهي، دوما، بتسكين الأزمات، لتعود منطلقة، مرة أخرى، بعد فترة، عندما لا تسمح أموال السّلم الاجتماعي بتأجيلها/ ترحيلها. كما تتميّز تلك المنهجية التسييرية للأزمات الاجتماعية، منعا لأي هوامش لتحرّك خارج دائرة الإرادة التّامة والكاملة للسّلطة في غلق اللّعبة السياسية، بتعمّد الاستمرار في توكيل شريك وحيد مضمون، هو الاتحاد العمالي التابع للنظام، في الدخول لضمان سكوت المطالب الاجتماعية، وإظهار الرضا التام بالقرارات، مهما كانت جائرة، وخصوصا على الطبقات الهشّة والمهمّشة في المجتمع.
مثّل نموذجان للإضرابات، شهدتها الجزائر، أخيرا، تطبيقا حرفيا لتلك المنهجية، وهما قطاعان استراتيجيان، عرفت نقاباتهما المستقلة عن النقابة الرسمية بقوة الشخصيات التي تتحرك، لتمثيل مطالب المنتسبين إليها. ويتعلق الأمر، هنا، بقطاعي الصّحة والتّربية والتّعليم.
انطلقت الإضرابات في كلا القطاعين بسبب مشكلات/ مطالب بقيت من دون حل، وبعضها
وبتلك المنهجية، تنتهي تلك الإضرابات إلى مواجهاتٍ مع الأمن، بسبب منع الجزائر، منذ سنوات، التظاهرات في العاصمة (باعتباره إجراء تصعيديا مضادا لرفع المطالب إلى السلطات العليا وإشراك الرأي العام في تبنّي تلك المطالب)، وهو إجراء إضافي، يؤدّي إلى تأجيج تلك المشكلات، لتصبح نزاعا حقيقيا بأفق الانسداد. وبالتالي احتمال تطور النزاع للتأثير على الأوضاع العامة في البلاد، وهو الخط الأحمر الذي دونه ما شهدته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وتحفظ ذاكرة الجزائريين جيدا مآسيه من قتلى ومفقودين وضحايا بالآلاف.
تدليلا على مساوئ هذه المنهجية، يجب الحديث عن مخارج التسيير بالتجاهل لمطالب القطاعين، حيث جدّدت نقابات التربية والتعليم نداءاتها إلى إضرابات بعد العودة إلى العمل عقب عطلة الرّبيع، أي بداية شهر إبريل/ نيسان المقبل، في حين أن الأطّباء المقيمين قاطعوا امتحانات التخصّص، أخيرا، إضافة إلى احتمال استقالة جماعية منهم، بالنظر إلى التعامل المفرط في القوة معهم، من ناحية، وعدم قبول السلطة بمطالبهم، بعد أشهر من الإضرابات، من ناحية أخرى.
إدارة فاشلة
بعد إيراد ما سبق خريطة طريق السّلطة في إدارة الأزمات/ النّزاعات الاجتماعية، يمكن الوصول إلى استنتاج منظورها في معالجة المطالب الاجتماعية، في إطار نسق سياسي يرفض الاحتجاج، ويعتبره بادرة لرفض مسلكيّة النظام في التسيير، بل معارضة له، وهو ما يرفضه تماما بالنظر، أيضا، إلى ما تختزنه ذاكرته بشأن منهجية المعارضة، وما يمكن أن ينجرّ عنها من خسارة في الانتخابات، ووصول إلى منطق الانسداد، وشبح ما حدث في بداية يناير/ كانون الثاني 1992 بوقف المسار الانتخابي، والعودة إلى نقطة الصّفر في التحوّل نحو الديمقراطية، وما أدّى إليه من عشرية سوداء، أتت على الأخضر واليابس.
تقتضي الرؤية السويّة لمعالجة تلك المطالب تغييرا في النّسق السيّاسي بصفة جذرية، ليصبح نسقا بمنهجية تعاطٍ مع المطالب أخذا وردا، في إطار حوار مجتمعي، بعيدا عن الاستقطاب الذي مارسته السلطة بمنظورها الأحادي، وتأرجحها في اللجوء إلى شريك اجتماعي من رحمها، أو شراء السلم الاجتماعي بتسكين المطالب، بدلا من حل المشكلات، وبناء منظومات حوارية، تشاركية وتفاوضية قبل اتخاذ القرارات، وفي أثنائه وبعده، ومع فتح لمجال الوساطات من ممثلين حقيقيين لإرادة الناخبين على المستويات المحلية والوطنية (البرلمان بغرفتيه)
المسألة، بالنّتيجة، هي القبول بالعملية التحوّلية كلّها بتغيير أطر، بنى، مجموعات، قيادة وعمليات السّلطة السياسية (أسس عملية التحوّل السياسي وفق أدبيات "الموجات الديمقراطية" التي نظّر لها علماء السياسة الأميركيون، بالأساس). أو بمعنى آخر، هي التوافق على منهجية في الأخذ والرد مبني على قرارات تشاورية، في إطار إجماع سياسي، وبتغذية استرجاعية، وفق متطلبات العصر، أي القبول بمبدأ رفع المطالب، اللجوء إلى الإضراب والتفاوض، إلى حين حل المشكلات برمّتها.
تبنّي هذه المنهجية المؤسّسية والتسييرية كفيل بإعطاء نفس جديد لعملية التحول نحو الديمقراطية التي كانت الجزائر من أوائل البلدان في الذهاب إليها في نهاية عقد ثمانينيات القرن الماضي.
وإذا بقيت دار لقمان على حالها، فإن الخطر هو التسيير للمطالب الاجتماعية بين خيارين، الأسوأ والأسوأ منه، باعتبار أن إغلاق مجال الحوار مع المجتمع، من خلال منع المجتمع المدني، الأحزاب والنقابات، فانّ البدائل تكاد تكون معدومة للتّعامل مع المطالب الاجتماعية، إلا من باب السّلم الاجتماعي، أو النقابة التي تدور في فلك السّلطة، وكلا الخيارين هما، بالنتيجة، إدارة النزاعات لصنع الفشل الاجتماعي.
قد يكون هذا الحكم مفرطا في السوداوية، لكنّه لا يجانب الصواب، إذ إنه مبني على تشخيص منهجية التعامل مع المطالب الاجتماعية، إضافة إلى أنّ هذه المنهجية لا تؤدي، في نهايتها، إلا إلى الانسداد، وهو خطوة نحو التصعيد في منطق إدارة النزاعات الاجتماعية، وهو أمر مرفوض، تماما، من كل فئات المجتمع، لما تختزنه ذاكرتها من ألم تجاه تصعيدٍ أدى، في فترة ما، إلى وضع أمني صعب الاحتمال، وبتبعات ما زالت الجزائر تعاني منها.
وهناك مفاضلة أخرى، يمليها الأمل والقراءة المتأنّية للتحوّلات التي تحمل التقدم للمجتمعات، وهي المفاضلة بين الانفتاح والحوار وانخراط السلطة والمجتمع، كليهما، في خيار توافقي لتخطّي هذه المنهجيات التي لا تفيد في شيء وتجاوزها.