قبل أيام عدة، فاجأ التلفزيون المصري مشاهديه بعرض تقرير إخباري، ضمن فقرة من برنامج "أنا مصر"، للمذيعة أماني الخياط، يحمل تحريضاً مباشراً ضد المخرج، محمد دياب، على خلفية عرض فيلمه الجديد "اشتباك" في قسم "نظرة ما"، في مهرجان "كان" السينمائي 2016.
يهاجم معدّ التقرير، محمد حكيم، المخرج دياب، بدعوى أن أفلامه "تسيء دائماً إلى سمعة مصر"، وأنه "يتّخذ دائماً مواقف سياسية ضد مصر"، واصماً فيلمه "678" بأنه يعرض صورة مغلوطة عن التحرّش في المجتمع، وأن فيلمه الأحدث "اشتباك" يطالب بالتصالح مع الإخوان، ضد رغبة غالبية الشعب المصري.
خطورة الفقرة الطويلة في البرنامج، التي تبدأ وتنتهي بنظريات مؤامرة بشأن دياب وفيلمه، ليست فقط في ادّعاءاتها المباشرة، أو في تجاوزها للمهنية، بل في أنها فقرة داخل تلفزيون الدولة.
في هذا الملف، نتناول نماذج أخرى تاريخية، وقفت فيها السلطة أو النظام الحاكم ضد بعض الفنانين، بسبب أفلامهم.
يوسف شاهين: كيف حدثت النكسة؟
في نهاية الستينيات، كان لدى المخرج، يوسف شاهين، فيلم يتناول السؤال المحوري الذي أرّق هذا الجيل كاملاً، عن كيف وقعت النكسة في حرب 1967، وعن الفساد الداخلي في الحزب الاشتراكي، وعلاقات أطراف السلطة المختلفة، التي أدت في النهاية إلى الهزيمة العسكرية الأكبر في مصر الحديثة.
رُفض السيناريو رقابياً، وتمّ إخبار شاهين، كما يؤرّخ في فيلمه "حدوته مصرية" (1982)، أنه يريد أن يصنع أفلاماً "على مزاجك؟!"، لتكون النتيجة هجرته إلى لبنان، وقراره عدم العودة إلى مصر مجدّداً، بسبب تعنّت السلطة، ورفضها له.
لاحقاً، عاد وأخرج "الأرض" (1969)، ثم أخرج نسخة معدّلة من سيناريو فيلمه المرفوض سابقاً، سماه "العصفور" (1972). لكن، من جديد، تمّ رفضه رقابياً، وظلّ في "العلب" وممنوعاً من العرض من عام 1972 إلى عام 1974، حيث لم يُصرَّح بعرضه إلا بعد حرب أكتوبر 73.
حسين كمال... عتريس هو عبدالناصر
في نهاية الستينيات أيضاً، أخرج حسين كمال "شيء من الخوف" (1969)، عن قصة ثروت أباظة، تمثيل شادية ومحمود مرسي. روى فيه قصة الطاغية عتريس، وعلاقته بأهل البلدة، وبحبيبته فؤادة. أحيل على الرقابة لما قام بعض الموظفين بإبلاغ رجال السلطة بأن الفيلم "يلمّح" إلى الرئيس جمال عبدالناصر، ورجال دولته في مصر.
تمّ رفض الفيلم، وترويع المخرج، حسين كمال، نفسياً لشهور عديدة، حيث تعرّض للضغط عما يمكن أن يحدث به نتيجة تلك النظرية، أو الوشاية التي تجعل رمزية الفيلم سياسية، وضد عبدالناصر نفسه. لم يُحلّ الأمر إلا مع تدخّل بعض المثقفين، وإيصال القضية إلى الرئيس نفسه، الذي طلب مشاهدة الفيلم والحكم عليه بشكل شخصي. حين شاهده، قال جملته الشهيرة: "لو كنّا بهذا السوء الذي عليه عتريس ورجاله، فنحن بالتأكيد نستحق الحرق". بعدها، أُجيز الفيلم رقابياً، قبل أن يُعتبر مع مرور السنوات، من "كلاسيكيات السينما المصرية".
ممدوح شكري... زوّار الفجر
كان ممدوح شكري أحد أكثر المخرجين المبشّرين في بداية السبعينيات. لكن مسيرته انتهت تماماً بسبب فيلمه "زائر الفجر" (1973)، الذي يتناول قضية التحقيق في مقتل صحفية. مع التعمق في الأحداث، يتّضح أن للأمر خلفية سياسية، لها علاقة بماضيها ووجودها في المعتقل، والقتل المعنوي الذي تعرّضت له نتيجة الفساد السياسي والمجتمعي.
عُرض الفيلم في الصالات السينمائية أسبوعاً واحداً، قبل أن يُمنع تماماً لأسباب أمنية، ويتمّ التحقيق مع صنّاعه، وتوجيه التحذير الشفهي لهم. حاولت منتجته وبطلته، ماجدة الخطيب، مقابلة الرئيس، أنور السادات، لإجازة عرضه، لكنها لم تستطع، وخسرت أموالاً كثيرة بسبب حجبه سنوات عديدة.
أما ممدوح شكري، فقد تمّ التضييق عليه، وعانى اكتئاباً شديداً، ولم يستطع أن يُخرج فيلماً آخر بقية حياته.
شاهين مجدّداً: ليه؟
بعد سنوات من مشكلة شاهين الأولى مع سلطة جمال عبدالناصر، حدثت له مشكلة أخرى مع سلطة الرئيس أنور السادات، حين أخرج "إسكندرية ليه؟!" عام 1978، وظهرت فيه شخصية يهوديّ مصري (أدّاها يوسف وهبي) وعلاقته بالإسكندرية بعد الحرب العالمية الثانية، ثم قراره الهجرة إلى فلسطين /إسرائيل. يطرح شاهين في عمله صورة بانورامية لمدينته الأم، والتعايش الكامل بين الأطياف المختلفة. لكن تلك الصورة لم تحظَ بقبول رسمي، خصوصاً مع مواقف أخرى لمخرجه معادية للسلطة والجهات الرسمية، لتتمّ مهاجمة الفيلم بضراوة، ومنع عرضه سنوات طويلة، مع حفنة أخرى من أفلام شاهين، في تلفزيون الدولة.
لم يُقبَل يوسف شاهين من السلطة، ولم يتمّ الاحتفاء به بشكل كامل، إلاّ بعد فوزه بجائزة خاصة، بمناسبة العيد الـ 50 لمهرجان "كان" السينمائي، عام 1997، حيث عومل كأحد أهمّ مخرجي العالم حينها. هذا أدّى إلى بدء عرض أفلامه في التلفزيون، وتغيير الحديث عنه، فأصبح يوصف بـ "المخرج العالمي".
عاطف الطيب... مشاغب لم تحبّه السلطة
لم يكن المخرج، عاطف الطيب، في وئام مع السلطة في مصر منذ بدايته. أفلامه حملت نكهة سياسية، وهجاءً اجتماعياً بشكل دائم، كما في "سواق الأتوبيس" (1981) و"الحب فوق هضبة الهرم" (1984) مثلاً. لكن الصدام المباشر معها وقع مع "البريء" (1986).
الفيلم، الذي كتبه وحيد حامد ومثّل فيه، أحمد زكي ومحمود عبدالعزيز، تناول معسكرات الأمن المركزي، والطريقة التي يُعامل بها المعتقلون السياسيون، وتصويرهم كأشخاص ضد الوطن بالنسبة إلى المجندين. وهو ينتهي في البداية، بقيام العسكري (زكي) بفتح النار على الضباط والعساكر، قبل بدء تعذيب دفعة جديدة من المعتقلين.
تمّ سحب الفيلم سريعاً من صالات العرض، بعد إجازته رقابياً، وتعرّض لمشاهدات عديدة في "أمن الدولة"، وطُلِب من صناعه حذف مشاهد عديدة، منها مشهد النهاية بالكامل. بعد تنفيذ كل تلك الأوامر، عُرض الفيلم بشكل محدود، قبل منعه ثانياً، مع قرار بعدم عرضه في التلفزيون المصري.
سنوات بعدها، ظلّ التعامل مع عاطف الطيب كمخرج غير خفيف على السلطة، يعاني بصورة أكبر مع الرقابة، وتتعرض أفلامه إلى مزيد من التدقيق، قبل أن تنفجر الأمور مجدّداً مع إخراجه "ناجي العلي" (1992)، الذي يتناول القضية الفلسطينية من خلال شخصية الرسّام ناجي العلي.