صارت فرصة الحصول على وظيفة حلماً عصي المنال أمام غالبية الخريجين السودانيين، الذين أصبحوا بين ناري البطالة أو الاتجاه نحو الأعمال الهامشية، في ظل انتظار الأسر لحصاد رحلة التعليم، والتي تكون قد أنفقت فيها الكثير من الأموال لتعليم وتأهيل أبنائها.
رسم عدد من الخريجين الذين التقيناهم صورة قاتمة لفرص العمل في السودان. في حديثٍ مع "جيل العربي الجديد"، يقول مصطفى الطيب محمد، وهو خريج كلية الاقتصاد من جامعة "أم درمان الأهلية"، إنه ومنذ تخرجه اجتهد كثيراً في التقدم للوظيفة العامة، لكنه لم يوفق، مشيراً إلى أن أداء الخدمة الوطنية الإلزامية أول عتبة يصطدم بها الخريج الجامعي. ويوضح أن الوظائف تشترط حداً أدنى من الخبرة (عامين)، الأمر الذي لا يتوافر عليه الخريجون الجدد.
يشير محمد إلى أن عدم حصوله على أية وظيفة خلال أربع سنوات أحبط أسرته كثيراً: "العمل في (سوق الله أكبر) يحتاج إلى رأس مال، وهو ما لا أقدر عليه"، ويقول، مضيفاً، إنه أصبح لا يتردّد في قبول أي عمل نظراً إلى الصعوبات الاقتصادية التي تضرب بملايين السودانيين.
من جهتها، توضّح تقوى الماحي، وهي خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة "جوبا"، أنها تخرجت ونالت دبلوماً عالياً في العلاقات الدولية، وتقدّمت لوظائف التعليم بمحلية شندي ولم توفق، حيث تم إخطارها بسقوط اسمها من الكشوفات.
لاحقاً، تقدّمت إلى عدد من الوظائف عبر لجنة الاختيار للخدمة العامة في الخرطوم، ولم يحالفها الحظ. تقول إن الحصول على وظيفة أصبح حلماً عصي المنال لغمار الخريجين، الأمر الذي خلّف قدراً كبيراً من الإحباط لديها، وأشعرها بأن حياتها تمضي دون إنجاز. هكذا، ذهبت الماحي إلى التفكير في الهجرة، لكنها لو وجدت تمويلاً ستقوم بتأسيس عمل خاص بها، مبينةً أنها انخرطت في العمل الطوعي بغية توفير القليل من المال لتغطية احتياجاتها.
في هذا السياق، يرسم الخريج، معتصم سيد أحمد، صورةً مأساوية لوضع الخريجين أمام سوق العمل عبر حالته الخاصة، قائلاً إنه تخرج من "جامعة السودان"، كلية الموسيقى والدراما قسم المسرح بتقدير ممتاز، ورفضت إدارة الكلية تعيينه بسبب نشاطه السياسي؛ الأمر الذي دفعه إلى العمل متطوعاً مع بعض منظمات المجتمع المدني لمدة عامين.
حاول أحمد البحث عن الاستقرار داخل الوطن لكنه لم يجد الوظيفة التي تؤمن له ذلك، فعمل كسائق بعربة نقل ركاب لمدة عامين، رغماً عن كونه أول دفعته بالجامعة ومفترض أن يكون معيداً أو محاضراً على أقل تقدير.
ويؤكد الخبير في شؤون العمل وأمين عام المنظمة السودانية للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، محمد علي خوجلي، أن المشكل الأساسي الذي يواجه ملف استيعاب الخريجين يكمن في عدم وجود سياسة استخدام وطنية متفق عليها، منتقداً المزاعم التي تقول إن مخرجات التعليم لا تتفق مع سوق العمل، بالقول إن هذا الزعم تدحضه الهجرة المستمرة للخريجين والكوادر إلى أسواق العمل في الخارج.
ويوضح أن هناك لجان اختيار للخدمة على المستوى الولائي وعلى المستوى القومي، فضلاً عن وجود جهات أخرى تقوم بالتعيين، لكنه أشار إلى أن وجود عوامل تؤثر على استخدام الخريجين، ومنها استخدام الخبراء الذين وصلوا إلى سن التقاعد ويتقاضون مرتبات عالية جداً، بجانب أن الكثير من الوحدات لا تحدد الوصف الوظيفي. ونتيجة لذلك نجد أن هناك أشخاصاً يشغلون أكثر من وظيفة. يبين خوجلي أن مصانع القطاع الخاص والقطاع الصناعي (مصانع زيوت وصابون ومحالج وخلافه) كانت تستوعب كمية من الخريجين؛ لكن تم تدميرها بالكامل وتوقفت عن العمل.
يشير المحامي المختص بقضايا العمل، حاتم إلياس موسى، إلى أن الحق في العمل من المبادئ الأصولية، شأنه شأن الحق في المساواة بين المواطنين (الخريجين) وإعطائهم حق الولوج إلى الوظيفة العامة دون إقصاء أو تمييز.
لكنه يُلاحظ أنه، في الآونة الأخيرة، لم تعد هذه الحقوق متوافرة في السودان على مستوى وظائف الدولة أو الشركات الخاصة، مضيفاً أن هناك ادعاءً لعنصر الكفاءة والمساواة، لكنها على أرض الواقع منتفية؛ لذا يتجه الكثير من الخريجين إلى القبول بأية مهنة متواضعة، الأمر الذي اعتبره فعلاً مؤذياً للطموح البشري.
من جهتها، تؤكد الباحثة الاجتماعية، مزاهر إبراهيم، أن البطالة مصدر نشط من مصادر التوتر الاجتماعي، وأن عدم استيعاب الخريجين وتسكينهم في وظائف لائقة تمثل نموذجاً للهدر المتعسف والمفرط للموارد البشرية الفاعلة، والظاهرة الأكثر إيلاماً للفرد والمجتمع.
وتوضّح أن المتعطلين "قسراً" يكون استعدادهم للعنف السياسي والحياتي أعلى بحكم تدني السن وانعدام الخبرة الحياتية والإصابة بالإحباط، الذي تولده حالة التعطل الصادمة لكل طموحات الفرد، فضلاً عما تخلقه من نقمة تجاه المجتمع وتجاه الأفراد ذوي النفوذ وتجاه السلطة الموجودة.
وتشير إلى أن عدداً من باحثي علم الاجتماع يرون أن حالة البطالة وثيقة الصلة بازياد معدلات الجريمة، لعدم تمكين أفراد المجتمع من الحصول على عمل ثابت، فتزيد حالات الغش والاحتيال وتعاطي الممنوعات.
وكانت مجموعة من الخريجين والمتقدمين للوظائف العامة قد نظمت موكباً في عام 2012 في مدينة الخرطوم، مطالبة والي الولاية بحل مشكلة العطالة حلاً جذرياً ومعلنة ضجرها من التسويف في مجال استيعابها في الخدمة العامة، وسبقت هذه الخطوة مظاهرة قام بها الخريجون في ولاية غرب كردفان في عام 2011 رافعين مطالب توظيفهم عبر لجنة الاختيار الولائية، وتسكينهم في الوظائف التي يستحقونها.
ويرى الخبير في شؤون العمل، محمد علي خوجلي، ضرورة أن ينظم الخريجون العاطلون أنفسهم في أشكال تنظيمية تطالب بحقوقهم المكفولة في الدستور. ويوضح أن اتحاد العمال لا يتبنى قضية هؤلاء الخريجين، الأمر الذي يضع قفاز التحدي أمامهم.
(السودان)