24 يوليو 2024
السودان.. ماذا بعد الاعتصام؟
انتهى اعتصام يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول في السودان. حدثٌ شغل السودانيين في الداخل والخارج، كما لم يفعل أي حدث مشابه منذ انقلاب الجبهة الإسلامية وتوليها الحكم في السودان عام 1989. انتهى الاعتصام لكن الأسئلة الكثيرة التي طرحها بشأن الأزمة السياسية في البلاد مستمرة. طرح المبادرون إليه، فكرة وتنفيذاً، مسألة تغيير الحكم. وبذلك تجدّد السؤال القديم الجديد بشأن البديل لحكم الرئيس عمر البشير. ومقترناً معه انتشر، وبدفعةٍ قويةٍ من الأجهزة الأمنية، السؤال الموازي: هل نزيح البشير ليعود لنا الصادق المهدي وحكم الطائفتين؟. وسابقاً، كلما هب الشعب السوداني ضد نظام جعفر نميري، كان الهتاف المحبب والمعبر عن الضجر الشعبي من فساد الحكم، وبعده عن الاهتمام بهموم المواطن، "الأحزاب ولا العذاب". وقد أعيد هذا الهتاف في غضون الحكم الحالي غير مرة، ورفده الحراك التونسي بالشعار الأكثر نفاذاً "الشعب يريد إسقاط النظام". وبالاعتصام، أسقط الأمر بيد الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية. ولأول مرة، شعرت بأنها تواجه "عدواً" خارج دائرة حساباتها التقليدية، فلقد كانت شريحة الشباب المحرك الحقيقي بالفكرة الشجاعة والرؤية الأكثر وضوحاً من سابقاتها وعبقرية اختيار صيغة المواجهة البسيطة.
وبينما توقعت الأجهزة خروج المعارضين في شوارع المدن، توعدهم الرئيس البشير، ومباشرةً بتعبيرات من قاموس سباب معتاد، حشدت له عبارات، مؤكد أنها لم تخطر على بال أي رئيس سوداني، فقد دعا صراحة معارضيه إلى مقارعته في الشوارع، بدلاً عن الاعتصام بالبيوت. ويقول واقع الحال إن الأمور سارت بغير توقعات الأجهزة الأمنية وظهر شباب ومن داخل السودان يعبرون عن حال أهل السودان وبطريقة مختلفة. حتّم هذه المواجهة غير التقليدية عنصر انعدام التكافؤ بين متظاهرين سلميين وقوة باطشة، قتلت مئات من الشباب باستخدام السلاح، كما جرى في سبتمبر/ أيلول 2013.
ومن أهم دلالاتٍ أفرزها التحرّك الشبابي، أخيراً، أن الثورة التكنولوجية أحدثت تغييرات حقيقية في عالمنا، وفي هذا الصدد لم يشكل السودان استثناءً. باتت المعرفة والمعلومة متاحةً أمام الجميع. ولم تعد لوسائل تزييف الوعي التقليدية فعاليتها أمام وسائل التواصل الاجتماعي. من الناحية الأخرى، قرع الشباب جرس الإنذار وبقوة، ليس للحكومة وحدها، وإنما أيضاً لكل الأحزاب في السودان بأنه لا مكان للقيادات التقليدية في الأحزاب، وسط دم شبابي جديد. ومن المؤكد أن لغة التفاهم والتنسيق بين كهول الأحزاب وشباب العصر التقني ستنعدم. وعلى هذا، يبقى للأحزاب السودانية خيار وحيد، هو أن تغير دمها، وتضع جيل الشباب بصفوفها في المقدمة إن أرادت فعلاً التقدم نحو التخلص، ليس فقط من النظام، بل أيضاً من نمط الحياة السياسية العتيق الذي يجافي روح العصر. لقد وجد الشباب، هذه المرة، ضالتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت طروحاتهم مستمدةً من واقع الحياة البائس، وزاد ضرامها رفع الدعم الحكومي عن سلع وأدوية منقذة للحياة. أضف إلى ذلك أغانيهم الحماسية التي ابتدعوها، ورفدهم بها شباب كثيرون من داخل السودان ومن خارجه، ما جعلها أشبه بمحرك جبار، يطلق شرارة الحياة والحمية في شارع لديه من التجارب رصيد وافر. وفوق ذلك، كانت قوة حجتهم التي تضمنتها خطبهم، وتجاربهم العملية من مجترحات العقليات الشابة، منفذاً إلى قلب الشارع السوداني وعقله، وحرّكوا شيئاً ما في أعماق نهر الشعب الجارف. وربما لم يكن لهذا الكم من الشباب، وذاك الوعي الذي أطلق حممه على صفحات الانترنت، ما يربطه، بوصفه حراكاً منظماً، لكنه بلا شك أبلغ رسالته إلى الجميع، وبوضوح شديد، وفي انسجامٍ لافت.
وكان هذا الحراك بمثابة زلزال هز الشارع السوداني، ووضع القوى السياسية، حكومةً ومعارضةً في حالة دفاع. وتعاملت الحكومة وفق نسق شمولي مألوف، فرمت باللائمة على الأحزاب، ومارست قمعاً معتاداً، واعتقلت مئات النشطاء السياسيين، وقمعت الصحافة، فأوقفت، وبشكل متكرّر، صحفاً. ولكن، طوال الأيام التي سبقت الاعتصام، أو في أثنائه، كانت الحكومة تجهد نفسها، وعلى غير العادة، بالدفاع عن نفسها، وطفح الفضاء الإلكتروني بعمليات تزوير متعددة، نفّذتها الأجهزة الأمنية، كإصدار بياناتٍ وتدبيج تصريحاتٍ على لسان بعض قادة المعارضة، مثل الصادق المهدي.
ولعل أهم ما في الاعتصام البشارة المفرحة للشعب السوداني أن جيل الشباب الذي أشفق كثيرون من ضياعه، جرّاء التعليم المتردّي وأفق العمل المسدود، قد نهض وبقوة، ليعلن عن نفسه بديلاً سياسياً حقيقياً. ولهذا، إذا كان السؤال الذي طرح هذه المرة، وبقوة، بشأن البديل، فإن ثمة إجابة غير مكتملة، حملها الشباب بعبقرية الحراك. ولهذا، فإنه متى ما وجد الشباب المعادلة المناسبة للإجابة على السؤال سيكون الشعب سندهم القوي والحاسم في تغيير شكل الحكم في السودان. ولعل من محاسن المصادفات أن السلاح لم يدخل في دائرة الصراع، وهو الفزّاعة التي ظل يلوح بها جهاز الأمن أو انصار حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) أمام الحراك الشعبي بأن البديل عن الحكم الحالي هو إلحاق البلد بخريطة الدمار الحادث في عدة دول عربية. والسبب بسيط، وهو أن السلاح في السودان محتكر بيد الحكومة وأنصارها. ولهذا السبب، يبدو سياق سيناريو التغيير في السودان مختلفاً. وهذا يضع ثلاثة احتمالات: أن تتم عملية التغيير بتوافق بين قوى حزبية معارضة نافذة، تسمح باستمرار النظام في جوهره مع تغيير شكلي في القيادة، وهذا الأقرب. أو أن يبلغ الصراع بين قوى الإسلاميين مداه على خلفية الاختلاف الماثل بشأن مخرجات الحوار الوطني، ويحتكمون بما هو بين أيديهم من قوة السلاح، وفي هذه الحالة سيكون هناك ما تشبه الحالة العربية المدمرة. أو أن يحسم الشباب أمرهم ويتوافقوا على صيغة بديل مقنع للشعب بسيط ومنطقي، شفاف مقاوم للفساد. وفي هذه الحالة، سينقل العصيان الثالث السودان إلى طريق مختلف وبثورة مبدعة.
وبينما توقعت الأجهزة خروج المعارضين في شوارع المدن، توعدهم الرئيس البشير، ومباشرةً بتعبيرات من قاموس سباب معتاد، حشدت له عبارات، مؤكد أنها لم تخطر على بال أي رئيس سوداني، فقد دعا صراحة معارضيه إلى مقارعته في الشوارع، بدلاً عن الاعتصام بالبيوت. ويقول واقع الحال إن الأمور سارت بغير توقعات الأجهزة الأمنية وظهر شباب ومن داخل السودان يعبرون عن حال أهل السودان وبطريقة مختلفة. حتّم هذه المواجهة غير التقليدية عنصر انعدام التكافؤ بين متظاهرين سلميين وقوة باطشة، قتلت مئات من الشباب باستخدام السلاح، كما جرى في سبتمبر/ أيلول 2013.
ومن أهم دلالاتٍ أفرزها التحرّك الشبابي، أخيراً، أن الثورة التكنولوجية أحدثت تغييرات حقيقية في عالمنا، وفي هذا الصدد لم يشكل السودان استثناءً. باتت المعرفة والمعلومة متاحةً أمام الجميع. ولم تعد لوسائل تزييف الوعي التقليدية فعاليتها أمام وسائل التواصل الاجتماعي. من الناحية الأخرى، قرع الشباب جرس الإنذار وبقوة، ليس للحكومة وحدها، وإنما أيضاً لكل الأحزاب في السودان بأنه لا مكان للقيادات التقليدية في الأحزاب، وسط دم شبابي جديد. ومن المؤكد أن لغة التفاهم والتنسيق بين كهول الأحزاب وشباب العصر التقني ستنعدم. وعلى هذا، يبقى للأحزاب السودانية خيار وحيد، هو أن تغير دمها، وتضع جيل الشباب بصفوفها في المقدمة إن أرادت فعلاً التقدم نحو التخلص، ليس فقط من النظام، بل أيضاً من نمط الحياة السياسية العتيق الذي يجافي روح العصر. لقد وجد الشباب، هذه المرة، ضالتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت طروحاتهم مستمدةً من واقع الحياة البائس، وزاد ضرامها رفع الدعم الحكومي عن سلع وأدوية منقذة للحياة. أضف إلى ذلك أغانيهم الحماسية التي ابتدعوها، ورفدهم بها شباب كثيرون من داخل السودان ومن خارجه، ما جعلها أشبه بمحرك جبار، يطلق شرارة الحياة والحمية في شارع لديه من التجارب رصيد وافر. وفوق ذلك، كانت قوة حجتهم التي تضمنتها خطبهم، وتجاربهم العملية من مجترحات العقليات الشابة، منفذاً إلى قلب الشارع السوداني وعقله، وحرّكوا شيئاً ما في أعماق نهر الشعب الجارف. وربما لم يكن لهذا الكم من الشباب، وذاك الوعي الذي أطلق حممه على صفحات الانترنت، ما يربطه، بوصفه حراكاً منظماً، لكنه بلا شك أبلغ رسالته إلى الجميع، وبوضوح شديد، وفي انسجامٍ لافت.
وكان هذا الحراك بمثابة زلزال هز الشارع السوداني، ووضع القوى السياسية، حكومةً ومعارضةً في حالة دفاع. وتعاملت الحكومة وفق نسق شمولي مألوف، فرمت باللائمة على الأحزاب، ومارست قمعاً معتاداً، واعتقلت مئات النشطاء السياسيين، وقمعت الصحافة، فأوقفت، وبشكل متكرّر، صحفاً. ولكن، طوال الأيام التي سبقت الاعتصام، أو في أثنائه، كانت الحكومة تجهد نفسها، وعلى غير العادة، بالدفاع عن نفسها، وطفح الفضاء الإلكتروني بعمليات تزوير متعددة، نفّذتها الأجهزة الأمنية، كإصدار بياناتٍ وتدبيج تصريحاتٍ على لسان بعض قادة المعارضة، مثل الصادق المهدي.
ولعل أهم ما في الاعتصام البشارة المفرحة للشعب السوداني أن جيل الشباب الذي أشفق كثيرون من ضياعه، جرّاء التعليم المتردّي وأفق العمل المسدود، قد نهض وبقوة، ليعلن عن نفسه بديلاً سياسياً حقيقياً. ولهذا، إذا كان السؤال الذي طرح هذه المرة، وبقوة، بشأن البديل، فإن ثمة إجابة غير مكتملة، حملها الشباب بعبقرية الحراك. ولهذا، فإنه متى ما وجد الشباب المعادلة المناسبة للإجابة على السؤال سيكون الشعب سندهم القوي والحاسم في تغيير شكل الحكم في السودان. ولعل من محاسن المصادفات أن السلاح لم يدخل في دائرة الصراع، وهو الفزّاعة التي ظل يلوح بها جهاز الأمن أو انصار حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) أمام الحراك الشعبي بأن البديل عن الحكم الحالي هو إلحاق البلد بخريطة الدمار الحادث في عدة دول عربية. والسبب بسيط، وهو أن السلاح في السودان محتكر بيد الحكومة وأنصارها. ولهذا السبب، يبدو سياق سيناريو التغيير في السودان مختلفاً. وهذا يضع ثلاثة احتمالات: أن تتم عملية التغيير بتوافق بين قوى حزبية معارضة نافذة، تسمح باستمرار النظام في جوهره مع تغيير شكلي في القيادة، وهذا الأقرب. أو أن يبلغ الصراع بين قوى الإسلاميين مداه على خلفية الاختلاف الماثل بشأن مخرجات الحوار الوطني، ويحتكمون بما هو بين أيديهم من قوة السلاح، وفي هذه الحالة سيكون هناك ما تشبه الحالة العربية المدمرة. أو أن يحسم الشباب أمرهم ويتوافقوا على صيغة بديل مقنع للشعب بسيط ومنطقي، شفاف مقاوم للفساد. وفي هذه الحالة، سينقل العصيان الثالث السودان إلى طريق مختلف وبثورة مبدعة.