عيناه تصبحان صغيرتين جداً. ملامح وجهه لا تخبر سوى عن ذكريات صعبة تدور الآن في ذهنه. يحاول أن يتذكر كيف كانت حياته في سوريا قبل أن ينزح قسراً إلى لبنان. "لا أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع"، يقول بعد أن تتصلب عروق رقبته. يتردد في الإفصاح عن اسمه، ومن ثم يهمس قبل أن يرفع صوته بثقة: "ابراهيم مصطفى الزعمي".
ابراهيم، ابن درعا، نزح مع اولاد عمه إلى بيروت منذ 6 أشهر. يضيف بعد أن تتسع عيناه ويحرك يده نحو أذنه، كمن يعيش حالة الرعب ذاتها ولكن في هذه اللحظة: "كنت أخاف من الأصوات ومن الأخبار التي أسمعها".
ودرعا، لمن لا يعرفها، شهدت شرارة انطلاقة الثورة السورية في العام 2011. وفي هذه المنطقة كتب الأطفال على الحيطان عبارات تدعو الى اسقاط النظام السوري.
ابراهيم طفل أيضاً، عمره الآن 16 عاماً، كان يذهب إلى المدرسة، ولكنه تخلّى مجبراً عن كتابه منذ 3 سنوات، واستبدل به علبة سوداء ثقيلة يجوب بها شوارع بيروت. كان اسمه طالب علم فأصبح ماسح أحذية.
واقع مشابه، يمر على عدد كبير من النازحين من سوريا إلى لبنان، حيث ترتفع حدة الفقر، وترتفع معه مؤشرات البطالة. أما النتيجة، فحالة اقتصادية واجتماعية صعبة تلف شعباً ترك أرضه ليحتمي من الرصاص فباغته الجوع والحاجة.
عمالة الأطفال
يعمل ابراهيم من السابعة صباحاً حتى يحصل على 30 ألف ليرة لبنانية - حوالي 20 دولاراً أميركياً -. "قد أبقى حتى التاسعة ليلاً في الشارع لكي أستطيع الحصول على ما يكفي من المال لدفع حصتي في إيجار المنزل وادخار ما يتبقى لإرساله إلى عائلتي في سوريا".. إذ لدى ابراهيم 5 أخوة، هو أكبرهم، واخته الصغرى عمرها سنتان. والده لم يعد قادراً على العمل منذ سنة، بعدما أجرى عملية لقلبه، وأصبح ابراهيم "رجل المنزل".
حالة ابراهيم ليست استثنائية، ففي شوارع بيروت عدد كبير من الأطفال السوريين الذين يعملون لمساعدة عائلاتهم. وتقدر المفوضية السامية في الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نسبة الأطفال الذين يراوح عمرهم بين 12 و17 عاماً بحوالي 12.6 في المئة من إجمالي عدد النازحين في لبنان. بين هؤلاء عدد كبير من الذين يعملون في أعمال مرهقة لتأمين كفاف يومهم.
وتقول احصاءات المفوضية الصادرة في تقريرها الإثنين الماضي إن عدد اللاجئين بلغ "أكثر من 1014000 لاجئ: 966000 لاجئ مسجل و47000 لاجئ في انتظار التسجيل وانه قد تم تسجيل أكثر من 13000 نازح لدى المفوضية خلال الاسبوع الماضي".
من المدرسة إلى بيع القهوة
في شوارع بيروت أيضاً، يجوب رمضان الشدي حاملاً عدّة القهوة. يسكن رمضان في منطقة صبرا، في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. أجرة الغرفة في المنطقة التي تعتبر شعبية جداً، 500 ألف ليرة لبنانية، لذلك يعيش هو وثلاثة نازحين سوريين فيها ويتقاسمون كلفة الإيجار. "أعيش هنا وحدي، عائلتي تعيش في حلب"، يقول رمضان. يحصّل الأخير من بيع القهوة حوالي 15 ألف ليرة يومياً، مقابل أكثر من 13 ساعة عمل متواصل.
رمضان عمره 15 عاماً، أصرت والدته على النزوح الى لبنان للهرب من هول القصف بعدما ترك مدرسته منذ 3 سنوات، أي منذ بدء الثورة السورية. يقول رمضان: "أعيش كما يعيش أهلي في سوريا، فقر وتعب، ولكن الفارق أنني هنا لا أسمع أصوات القذائف".
الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي يشير في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن البطالة تنتشر بين أكثر من 80% من النازحين السوريين في لبنان، أما من يبقى فيعمل في الأعمال المؤقتة واليومية".
يشرح الخبير اللبناني أن "التعويل بمعظمه على الاغاثات الدولية ومساعدات الحكومات الغربية والعربية، فهذا ظرف انساني صعب يعيشه النازحون وعلى المساعدات أن تعين هؤلاء لكي يستطيعوا الصمود على قيد الحياة". ويشدد يشوعي على أن تجارب الدول تؤكد أنّ لا إمكانية لتوظيف اللاجئين بهذه الأعداد الضخمة في أسواق البلد المضيف، خصوصاً أن اللجوء مؤقت، وخصوصاً أيضاَ أن عقود العمل تمتاز بالديمومة، وبالتالي لا بد من أن يعمل النازحون في قطاعات تؤمن لهم بعض المدخول في حال لم تستطع المساعدات الدولية تلبية حاجاتهم". ويضيف يشوعي أن نسبة البطالة في سوريا ستصل في نهاية العام الجاري الى 40 في المئة، وعدد كبير من هؤلاء سينزح إلى لبنان، ما سيضاعف مشكلة البطالة والأزمة المعيشية للنازحين.
بطالة مقنّعة
النازح السوري مازن اسماعيل، عمره 28 عاماً، متزوح وله طفلان، وصل الى لبنان منذ 4 أشهر تقريباً، ووجد غرفة في منطقة الضاحية الجنوبية بكلفة 250 دولاراً أميركياً ليعيش فيها مع عائلته الصغيرة. "نحن نازحون من منطقة الحجر الأسود في الشام" يقول مازن. ويضيف "أبيع الأقلام، سعر القلم 500 ليرة، أحصل بين 10 الى 30 ألف ليرة يومياً".
كان مازن يبيع الورد في سوريا، الآن يقف عند إشارات السير في بيروت، ينتظر ازدحام السيارات، ويجول على أصحابها ليبيعهم قلماً. يتحدث ابن حلب عن معيشته الصعبة "نحصل على مساعدات غذائية قليلة، طفلتي صغيرة جداً وتحتاج للحليب، كثيراً ما تطعمها زوجتي المياه والسكر بدلاً من الحليب الذي لا تؤمنه المنظمات الانسانية بشكل متواصل". تصل الدمعة إلى جفنه: "نحن نعيش الذل، الحياة صعبة جداً هكذا، لا أعتبر نفسي عاملاً فأنا في بطالة فعلية، فمن لا يستطيع تأمين حاجاته الأساسية من مدخوله فهو ليس سوى عاطل عن العمل".
هذا الواقع لا يخفى عن المنظمات الدولية العاملة في لبنان. تقول الناطقة باسم مفوضية اللاجئين السوريين في لبنان دانا سليمان لـ "العربي الجديد" إن ثمة "صعوبة كبيرة في حصول النازحين السوريين على عمل في لبنان". تشرح أن "هذا الوضع يؤثر كثيراً على النازحين وعائلاتهم، وبالتالي يجري العمل على إيجاد طرق تضاف الى المساعدات الإغاثية لتأمين العمل لعدد من النازحين".
توضح سليمان أنّ "لا احصاءات دقيقة حول حجم البطالة في صفوف النازحين، إلا أن الأكيد أن غالبية العاملين في السوق اللبنانية هم عمال مؤقتون أو موسميون". وتلفت الناطقة باسم المفوضية الى أن "منظمتنا تعمل حالياً مع البلديات على تحسين ظروف العمل للنازحين في عدد من القطاعات التي لا تتوجه نحوها العمالة اللبنانية وخصوصاً قطاع البناء، إضافة الى الزراعة".