04 نوفمبر 2024
السياسة الشرعية بين حق الله وحقوق الرعية
في يثرب، أسس النبي جماعة المؤمنين، نواة لأمة واحدة، تعبد إلهاً واحداً "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّـةً وَاحِدَةً وَأَنَـا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ". وكان التمسك بالفكرة التوحيدية سبيلاً لصلاح الأمة وحفاظاً على هويتها "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا". ولم يتضمن القرآن هيكلية سياسية، تحدد كيفية إدارة الأمة التي مضى النبي في ترتيب شؤونها الدينية والسياسية، باتجاه إرساء العدل والقضاء على التراتبية الاجتماعية الهرمية "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".
جمع دستور المدينة بين حق الله وحقوق العباد، ودمج بين تعاليم الدين وأعراف القبائل. انقطع الوحي بوفاة النبي، ومع توسع الأمة ديمغرافياً وسياسياً، لم يعد الوازع الديني يكفي وحده لإدارة شؤون أمةٍ متعاظمة، حاولت صهر ثقافات وعقائد ورؤى مختلفة ومتعارضة، في بوتقة فكرتها الدينية، وسيفرض السياسي- الوضعي نفسه على الديني، بل وُجّه الثاني بالأول. وبعد تراجع المثل الأعلى الإسلامي في العدل، ستطغى عوامل التفتيت على عوامل التوحيد. وبعد أن كانت كلمة سياسة تعني تحقيق مصلحة العباد من دون مخالفة مصلحة الخالق، ظهرت السياسة الشرعية في مقابل السياسة الوضعية، تعبيراً عن حاجة إلى إعادة ضبط هذه بتلك.
بدأ الانشقاق الفعلي الأول عن الأمة، حين رفضت بعض القبائل دفع مال الزكاة، بحجة أن النبي كان مخولاً وحده بتحصيلها، الأمر الذي رأى فيه أبو بكر تمرداً على سلطته خليفة للنبي، فمضى في "حروب الردة"، على الرغم من معارضة بعض الصحابة. أما عمر بن الخطاب فرفض لقب خليفة رسول الله لاختصاص أبي بكر فيه، ولما خاطبه المغيرة بن شعبة بقوله: "يا خليفة خليفة رسول الله"، رأى أنه أمر يطول، مع تقدم الزمن وتتابع الخلفاء، وقال: "أنتم المؤمنون، وأنا أميركم".
ولا تقتصر المسألة هنا على تلافي تعقيد لغوي في المخاطبة والنداء، بقدر ما تتناسب وتوجهات عمر بن الخطاب العملية، لإرساء أجهزة الدولة الناشئة على أسس وضعية، مع حفاظه على العدل مثلاً أعلى، وهو الذي لم يكن يعيّن الولاة بناء على الأفضل في الدين وحسب، بل أخذ بالاعتبار الخبرة السياسية، مؤسساً لمبدأ جواز ولاية المفضول (صاحب الخبرة السياسية) مع وجود الفاضل (الورع صاحب العلم الديني). وعلى الرغم من حفاظه على شكلية البيعة، أعلن معاوية بن أبي سفيان أنه "أول الملوك"، وتقلصت رقابة الوحي على التاريخ، ليتراجع الفقه منذ الأمويين، وينحصر في شؤون القضاء، لصالح الطابع الزمني للسلطة.
اعتصاماً بحبل الله، ومنذ التمرد على عثمان، الخليفة الثالث، اعتزل بعض الصحابة الصراع السياسي الذي رأوا فيه فتنةً وإضعافاً للأمة "وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ". وإذا كان بعضهم استمر على موقفه في اعتزال ما بات يعرف بالفتنة، فإن تعاظم الإحساس بالظلم، وإدراك ما فيه من انحرافٍ عن مقاصد الدين الإسلامي، وقيمه العليا، دفعت طائفة واسعة من السلف، صحابة وتابعين، إلى المعارضة الصريحة للسلطة، مشاركة فعلية أو إفتاءً، وهو ما تجلى بوضوح في "الثورة" على يزيد، وفي الانتفاضة المسلحة التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث ضد الحجاج الثقفي. لكن، لاحقا، سيستقر الفقه السني عند ترك القتال في الفتنة، وتفضيل الاعتزال على الخوض فيها، وصولاً إلى تقييد الخروج على الحاكم بشروط صارمة.
ومع أن بوادر الخلاف السياسي بشأن الإمامة ظهرت منذ وفاة النبي في اجتماع السقيفة، فإن التنظير الأيديولوجي لم يكتمل حتى العصر العباسي. أما المرويات من الحديث التي تضخمت في خضم الصراع الأيديولوجي، فأتاحت لمختلف الفرقاء سنداً شرعيا لتبرير مواقفهم وتوجهاتهم السياسية. وبعد انتصار الدعوة العباسية، وما اعتبر "خيانة" من بني العباس لحلفائهم من آل البيت، حَصَر التنظير الفقهي الشيعي حق الإمامة في نسل علي بن أبي طالب من زوجه فاطمة، معلناً بذلك عدم شرعية خلافة بني العباس الذين تمسكوا بدورهم بالطابع الثيوقراطي لدولتهم، تأكيداً على سلطتهم المستمدة من الله، حتى انتشر الجبر، واضطرب الأمر.
على الرغم من الأيديولوجيا النضالية ضد الظلم، لحركات التمرد على السلطة العباسية، بابكية
وقرمطية وخرمية وغيرها، فإن تنامي طابعها العرقي والمذهبي، أدّى إلى بهتان عمقها الاجتماعي، وأعاق بعدها المعرفي. في المقابل، لم يعد الهدف من التنظير حول الخلافة والإمامة وحدة الأمة، والاعتصام بحبل الله، بل وحدة المذهب الديني، ما اقتضى الاعتصام بحبل السلطان الذي كان في ما روي من حديث: "جنة يُقَاتَل من ورائه ويُتَّقى به". وبدا التمسك بالخلافة والحفاظ على وحدانيتها أمراً وجودياً، لاسيما بعد تعدد مراكز الخلافة المنافسة لحكومة بغداد: "من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر". وعلى الرغم من تحول الخلافة إلى "مُلكٍ عضوض"، أصبحت البيعة، سواء قام المرء بها أم لا، مسألةً وجدانيةً بها يكتمل إيمانه: "ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
انحسر الموقف الراديكالي الملتزم بحق الرعيّة في العدل، وانتشرت مرويات الحديث التي تحث على تجنب الفتنة، وتفضل المسلم مقتولاً على كونه قاتلا، وعلى وجوب السمع والطاعة، والصبر على جور السلطان. فروي عن سلمة بن يزيد الجعفي أنه سأل النبي، فقال: "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية، أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال:" اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم". والتي رأت، أيضا، أن في الخروج على الحاكم انتكاساً إلى مرحلة ما قبل الأمة، أي "الجاهلية": "من كره من أميره شيئاً، فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية".
كانت طاعة أولي الأمر طاعةً مشروطة، "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". لكن حق العصيان قيد بشروط صارمة، تتعلق بالحالات القصوى التي ينتهك فيها حق الله، نحو: الكفر البواح، وترك الصلاة ومنعها، أو قيادة الأمة بغير الكتاب والسنة. وبينما بقي الخروج، هنا، مشروطا بتوافر القدرة وإعداد العدة، نُهي عنه في حال اقتصر الأمر على انتهاك حقوق الرعية.
كان العدل أساس المُلك، فأصبح المُلك غايةً بذاته، وبعد أن كان فرض العين، المتعلق بحق الله تعالى يمكن التسامح فيه لقيامه أساساً على المسامحة، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد والقائم على المشاحة (الخلاف)، حدث انقلابٌ في فقه الأولويات تجاه التشدد في حق الله مقابل التساهل في حقوق العباد. وكان تبرير ذلك أن ظلم الحاكم يهدد أبناء الأمة، أما الكفر فيعدد هويتها. وهو ما استقرت عليه الاجتهادات الفقهية التي تندرج تحت السياسة الشرعية بمفهومها العام.
ساد هذا التوجه، موروث الأمة التقليدي، السياسي والديني، وحكم مواقف مؤسسات دينية رسمية عديدة، تشددت تجاه مخالفي الشريعة من أبناء الشعب، ومارست في حقهم كل حسبة ممكنة، بينما تساهلت مع الظلمة من السلاطين. أما الحركات الأصولية الجهادية التي تبنت نظرية الخروج، فلم تكفّر الحاكم وحسب، بل والمجتمع أيضاً، فأقامت عليه الحد، ولم يكن الهدف من إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة رفع الظلم عن العباد، بل محاربة كل ما تراه كفرا يهدد حق الله.
أدى ذلك وغيره إلى استسهال الظلم، وتمويه الاستبداد، فطال أمده واتسع مداه، وسُدّت سبل إقامة مجتمعات العدل والحرية، وارتفعت كلفتها. بينما أصرّ المستبد على إعلان إيمانه، وتمسك بمظاهر الدين و شعائره، وصدح أئمة المساجد بخطب الطاعة المراقبة أمنياً، ووجد المصلون بحبوحةً في المكان لإقامة صلواتهم، مع أن قاعات صفوفهم المدرسية والجامعية ضاقت بهم، ولم يجدوا ما يكفيهم من أسرّة في مشافيهم، أو موضع قدم في وسائل نقلهم، فأسلموا أمرهم لتعاليم الخلاص الأخروي، ووجدوا فيها سكناهم، بعد أن لم يجدوا فرص عمل تضمن مستقبلا في دنياهم.
تقتضي الحرية إحساساً عاماً بالظلم، وإدراكاً مستمراً لبنى الاستبداد وطبائعه، وقد أدرك عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، أن القضاء على الاستبداد مرهون بـ " ترقي الأمة في الإدراك والإحساس"، ورأى أن "الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية... وقد تنقم على المستبد. ولكن، طلباً للانتقام من شخصه، لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض... وقد تقاوم المستبد بِسَوق مستبد آخر... وربما تنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً، حيث لا تلبث تلك الحرية أن تنقلب إلى استبداد... أشد وطأة".
جمع دستور المدينة بين حق الله وحقوق العباد، ودمج بين تعاليم الدين وأعراف القبائل. انقطع الوحي بوفاة النبي، ومع توسع الأمة ديمغرافياً وسياسياً، لم يعد الوازع الديني يكفي وحده لإدارة شؤون أمةٍ متعاظمة، حاولت صهر ثقافات وعقائد ورؤى مختلفة ومتعارضة، في بوتقة فكرتها الدينية، وسيفرض السياسي- الوضعي نفسه على الديني، بل وُجّه الثاني بالأول. وبعد تراجع المثل الأعلى الإسلامي في العدل، ستطغى عوامل التفتيت على عوامل التوحيد. وبعد أن كانت كلمة سياسة تعني تحقيق مصلحة العباد من دون مخالفة مصلحة الخالق، ظهرت السياسة الشرعية في مقابل السياسة الوضعية، تعبيراً عن حاجة إلى إعادة ضبط هذه بتلك.
بدأ الانشقاق الفعلي الأول عن الأمة، حين رفضت بعض القبائل دفع مال الزكاة، بحجة أن النبي كان مخولاً وحده بتحصيلها، الأمر الذي رأى فيه أبو بكر تمرداً على سلطته خليفة للنبي، فمضى في "حروب الردة"، على الرغم من معارضة بعض الصحابة. أما عمر بن الخطاب فرفض لقب خليفة رسول الله لاختصاص أبي بكر فيه، ولما خاطبه المغيرة بن شعبة بقوله: "يا خليفة خليفة رسول الله"، رأى أنه أمر يطول، مع تقدم الزمن وتتابع الخلفاء، وقال: "أنتم المؤمنون، وأنا أميركم".
ولا تقتصر المسألة هنا على تلافي تعقيد لغوي في المخاطبة والنداء، بقدر ما تتناسب وتوجهات عمر بن الخطاب العملية، لإرساء أجهزة الدولة الناشئة على أسس وضعية، مع حفاظه على العدل مثلاً أعلى، وهو الذي لم يكن يعيّن الولاة بناء على الأفضل في الدين وحسب، بل أخذ بالاعتبار الخبرة السياسية، مؤسساً لمبدأ جواز ولاية المفضول (صاحب الخبرة السياسية) مع وجود الفاضل (الورع صاحب العلم الديني). وعلى الرغم من حفاظه على شكلية البيعة، أعلن معاوية بن أبي سفيان أنه "أول الملوك"، وتقلصت رقابة الوحي على التاريخ، ليتراجع الفقه منذ الأمويين، وينحصر في شؤون القضاء، لصالح الطابع الزمني للسلطة.
اعتصاماً بحبل الله، ومنذ التمرد على عثمان، الخليفة الثالث، اعتزل بعض الصحابة الصراع السياسي الذي رأوا فيه فتنةً وإضعافاً للأمة "وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ". وإذا كان بعضهم استمر على موقفه في اعتزال ما بات يعرف بالفتنة، فإن تعاظم الإحساس بالظلم، وإدراك ما فيه من انحرافٍ عن مقاصد الدين الإسلامي، وقيمه العليا، دفعت طائفة واسعة من السلف، صحابة وتابعين، إلى المعارضة الصريحة للسلطة، مشاركة فعلية أو إفتاءً، وهو ما تجلى بوضوح في "الثورة" على يزيد، وفي الانتفاضة المسلحة التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث ضد الحجاج الثقفي. لكن، لاحقا، سيستقر الفقه السني عند ترك القتال في الفتنة، وتفضيل الاعتزال على الخوض فيها، وصولاً إلى تقييد الخروج على الحاكم بشروط صارمة.
ومع أن بوادر الخلاف السياسي بشأن الإمامة ظهرت منذ وفاة النبي في اجتماع السقيفة، فإن التنظير الأيديولوجي لم يكتمل حتى العصر العباسي. أما المرويات من الحديث التي تضخمت في خضم الصراع الأيديولوجي، فأتاحت لمختلف الفرقاء سنداً شرعيا لتبرير مواقفهم وتوجهاتهم السياسية. وبعد انتصار الدعوة العباسية، وما اعتبر "خيانة" من بني العباس لحلفائهم من آل البيت، حَصَر التنظير الفقهي الشيعي حق الإمامة في نسل علي بن أبي طالب من زوجه فاطمة، معلناً بذلك عدم شرعية خلافة بني العباس الذين تمسكوا بدورهم بالطابع الثيوقراطي لدولتهم، تأكيداً على سلطتهم المستمدة من الله، حتى انتشر الجبر، واضطرب الأمر.
على الرغم من الأيديولوجيا النضالية ضد الظلم، لحركات التمرد على السلطة العباسية، بابكية
انحسر الموقف الراديكالي الملتزم بحق الرعيّة في العدل، وانتشرت مرويات الحديث التي تحث على تجنب الفتنة، وتفضل المسلم مقتولاً على كونه قاتلا، وعلى وجوب السمع والطاعة، والصبر على جور السلطان. فروي عن سلمة بن يزيد الجعفي أنه سأل النبي، فقال: "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية، أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال:" اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم". والتي رأت، أيضا، أن في الخروج على الحاكم انتكاساً إلى مرحلة ما قبل الأمة، أي "الجاهلية": "من كره من أميره شيئاً، فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية".
كانت طاعة أولي الأمر طاعةً مشروطة، "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". لكن حق العصيان قيد بشروط صارمة، تتعلق بالحالات القصوى التي ينتهك فيها حق الله، نحو: الكفر البواح، وترك الصلاة ومنعها، أو قيادة الأمة بغير الكتاب والسنة. وبينما بقي الخروج، هنا، مشروطا بتوافر القدرة وإعداد العدة، نُهي عنه في حال اقتصر الأمر على انتهاك حقوق الرعية.
كان العدل أساس المُلك، فأصبح المُلك غايةً بذاته، وبعد أن كان فرض العين، المتعلق بحق الله تعالى يمكن التسامح فيه لقيامه أساساً على المسامحة، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد والقائم على المشاحة (الخلاف)، حدث انقلابٌ في فقه الأولويات تجاه التشدد في حق الله مقابل التساهل في حقوق العباد. وكان تبرير ذلك أن ظلم الحاكم يهدد أبناء الأمة، أما الكفر فيعدد هويتها. وهو ما استقرت عليه الاجتهادات الفقهية التي تندرج تحت السياسة الشرعية بمفهومها العام.
ساد هذا التوجه، موروث الأمة التقليدي، السياسي والديني، وحكم مواقف مؤسسات دينية رسمية عديدة، تشددت تجاه مخالفي الشريعة من أبناء الشعب، ومارست في حقهم كل حسبة ممكنة، بينما تساهلت مع الظلمة من السلاطين. أما الحركات الأصولية الجهادية التي تبنت نظرية الخروج، فلم تكفّر الحاكم وحسب، بل والمجتمع أيضاً، فأقامت عليه الحد، ولم يكن الهدف من إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة رفع الظلم عن العباد، بل محاربة كل ما تراه كفرا يهدد حق الله.
أدى ذلك وغيره إلى استسهال الظلم، وتمويه الاستبداد، فطال أمده واتسع مداه، وسُدّت سبل إقامة مجتمعات العدل والحرية، وارتفعت كلفتها. بينما أصرّ المستبد على إعلان إيمانه، وتمسك بمظاهر الدين و شعائره، وصدح أئمة المساجد بخطب الطاعة المراقبة أمنياً، ووجد المصلون بحبوحةً في المكان لإقامة صلواتهم، مع أن قاعات صفوفهم المدرسية والجامعية ضاقت بهم، ولم يجدوا ما يكفيهم من أسرّة في مشافيهم، أو موضع قدم في وسائل نقلهم، فأسلموا أمرهم لتعاليم الخلاص الأخروي، ووجدوا فيها سكناهم، بعد أن لم يجدوا فرص عمل تضمن مستقبلا في دنياهم.
تقتضي الحرية إحساساً عاماً بالظلم، وإدراكاً مستمراً لبنى الاستبداد وطبائعه، وقد أدرك عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، أن القضاء على الاستبداد مرهون بـ " ترقي الأمة في الإدراك والإحساس"، ورأى أن "الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية... وقد تنقم على المستبد. ولكن، طلباً للانتقام من شخصه، لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض... وقد تقاوم المستبد بِسَوق مستبد آخر... وربما تنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً، حيث لا تلبث تلك الحرية أن تنقلب إلى استبداد... أشد وطأة".