السياسة المستحيلة
في كتابه (أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية) يقدّم صقر أبو فخر مجموعة من الكليشيهات الشائعة بين العلمانيين العرب، من يساريين وقوميين، حول الديمقراطية والعلمانية والثورة والتاريخ والإسلاميين.
لا يشذ أبو فخر عن التقليد الذي يحمّل الإسلاميين مسؤولية كل ما وقع من كوارث وهزائم عرفتها الأمة العربية، وعلى الرغم من أنه يذكر دور أنظمة الاستبداد في سياق العمل ولكنه ذكر أقرب إلى رفع العتب منه إلى المساءلة. بينما يتحمل الإسلاميون، الذين لم يكونوا في السلطة خلال كامل القرن المنصرم، المسؤولية الحقيقية والحاسمة. فهم المسؤولون عن العسكرة والعنف، الآن وسابقاً، وعن الطائفية، وأيضاً الآن وسابقاً. بل إن مسؤوليتهم عن الطائفية هي عماد أطروحة الكتاب، أي مسؤولية أعيان الشام السنة، عن الطائفية وإعاقة العلمانية.
يضيف أبو فخر، من داخل كليشيه قومي عربي شائع، الأكراد أيضاً ونزعتهم الانفصالية الإثنية إلى القائمة السوداء. ومن طرائف هذه الإضافة أن "أبو فخر"، القومي العربي، يتحدث عن ضرورة رفض أية أحزاب إثنية في دولته المنشودة. خاصة أن هناك خمس إثنيات فاعلة في سورية، مما يؤدي، ربما، إلى تفتت الوطنية السورية. الطريف أن العروبة ولعلة ما ليست إثنية، فالإثنيات هم الكرد والسريان والأرمن والشركس والتركمان.
يدافع أبو فخر كذلك عن طرح نظري شائع جداً، وهناك أمثلة عديدة عنه، خصوصاً في حال النقاش حول الثورة السورية والموقف منها. وتبعاً لهذا الطرح فمن الضروري حصول ثورة عقلية، تحقق الحداثة والعلمنة والقيم الديمقراطية وتعلم الدروس التاريخية في الذهن، قبل أية ثورة فعلية. طبعاً يمكن للمرء أن يتساءل، إن كان من الممكن إنجاز كل هذه الأمور مسبقاً، فما الداعي أساساً للثورة؟ وطبعاً كل هذه الدعوى تقوم على افتراض، أن هذا ما حصل تاريخياً في كل الثورات، وإلا فإن الثورة والديمقراطية لن تكونا إلا تعبيراً عن الغوغاء. من الصعب إقناع أبو فخر "اليساري" أن هذا لم يحصل يوماً، وأن كل ما يقدمه من مخاوف، ليس إلا نسخة عما قاله أعداء الثورات والديمقراطية في كل مكان سابقاً.
على أية حال وبمعزل عن كل هذه الكليشيهات يهمني موضوع مختلف، أي الطرح السياسي، وليس التاريخي، المتعلق بالدولة والديمقراطية والعلمانية، باعتباره أساسياً لإمكانية السياسة أو الحرب المستدامة من جهة، ولكونه من جهة أخرى معبراً عن تصور شائع بين النخب السياسية الفاعلة في سورية والعديد من الدول العربية.
يربط أبو فخر بشكل لا يقبل الفكاك بين الديمقراطية والعلمانية، فلا يمكن للديمقراطية أن تتحقق دون أن تكون في الآن نفسه علمانية. والأخيرة تشترط بوضوح فصل الدين عن الدولة بشكل تام، بحيث تغيب أية إشارة للدين في دستور الدولة، أكانت الإشارة لدين الدولة أو لدين رئيسها، أو الإشارة إلى التشريع ومصادره. دون هذا الفصل التام لا يمكن للعلمانية أن تكون علمانية حقاً، ودون العلمانية لا يمكن للديمقراطية أن تكون ديمقراطية. ومن مقتضيات هذا الفصل التام إخراج أي فاعل سياسي يحيل بأي شكل إلى ما هو ديني، أي الإسلام السياسي. التحقق العملي لهذا الشرط هو عدم السماح للإسلاميين بالوجود في المجال السياسي، لأن وجودهم ينفي العلمانية وتالياً الديمقراطية.
الإشكال لا يتعلق بدقة تصور أبو فخر، حيث يمكن تقديم الكثير من الأمثلة على بطلانه. الإشكال يتعلق بالاستحالة، تصور أبو فخر يقوم على تناقض داخلي. فالإسلاميون فئة معتبرة من المجتمع، إن لم نقل الغالبية. والدولة، في بلادنا وسياقنا، التي ستقصيهم من المجال السياسي وتصون هذا الإقصاء ستكون ضرورة دولة غير ديمقراطية.
المشكلة أن تصور الديمقراطية لدى أبو فخر سيؤدي بالضرورة لدى تطبيقه إلى نفي الديمقراطية، وبالتالي فإننا نواجه مشكلة مستحيلة الحل بالصياغة التي يقدمها، فشروط الديمقراطية تنفي الديمقراطية وهذا ما يجعلها مسألة مستحيلة. البلية أن هذا التصور شائع ومقبول لدى العديد من العلمانيين العرب، وبالمقلوب لدى العديد من الإسلاميين أيضاً.
هل الديمقراطية ممكنة مع الإسلاميين؟ بالتأكيد أن الأمر شديد الصعوبة، ولكن من قال إنها أسهل مع علمانيينا، وقد خبرناهم عقوداً!
لا يمكن بناء ديمقراطية عبر المنع المسبق لفئات واسعة من الجمهور من التعبير عن رأيها، ولكن أيضاً لا يمكن للديمقراطية أن تقوم عندما يكون لفئات اجتماعية تصورات شديدة التباين ولا تمكن المصالحة بينها حول معنى الحياة الصالحة. هذه الإشكالية ليست جديدة، وقد سبق أن عاشتها العديد من المجتمعات التعددية والمنقسمة، ولم يكن من الممكن الخروج من هذا المأزق إلا عبر الحوار والقبول بالتسويات والتنازلات المتبادلة. الحاسم هو خيار النخب السياسية، ونحن لدينا حتى الآن مثلان: تونس وخيارها التوافقي، رغم أن الطريق أمامها ما يزال طويلاً للحكم، وسورية وخيارها المستحيل.