السياسة المصرية ومستقبل العلاقة مع ليبيا
اتجاهات السياسة المصرية
وكانت هناك محاولات من مصر لتفضيل خيار التدخل العسكري، ودعمت ذلك في اجتماعات دول الجوار في تونس، في 25 يوليو/ تموز الماضي، والعمل على وضع خطة مشتركة لوقف مسار عملية "فجر ليبيا" باعتبارها تهديداً للأمن الإقليمي، وهنا، تبدو ضرورة الاقتراب من العوامل والمحددات التي تؤثر في السياسة المصرية تجاه التدخل، أو المعالجة السياسية السلمية للأزمة.
وقد ظلت الفكرة المحورية في السياسة المصرية تكمن في تكوين نظام سياسي في ليبيا، يتماثل في خصائصه مع النظام المصري، بعد يوليو 2013. وشكل هذا الجانب محوراً استراتيجياً في السياسة الخارجية، وانعكس، بوضوح، في التصريحات الرسمية والحملات الإعلامية، وقد عبّرت مصر عن سياستها في مواقف كثيرة. فخلال معارك طرابلس بين قوات عملية "فجر ليبيا" ولواء حرس الحدود (القعقاع) وكتائب أخرى، انحازت المواقف المصرية، بوضوح، للخيارات المؤيدة لعملية "الكرامة"، حيث اعتبرتها آلية عسكرية لمواجهة الحركات الإرهابية. وقد زاد التضامن المصري مع خليفة حفتر، بعد الإعلان عن تشكيل مجلس النواب في طبرق، باعتباره يمثّل إطاراً شرعياً. كما دشّنت مصر حملة إعلامية وسياسية ضد "غرفة ثوار ليبيا" والحركات الثورية في شرق ليبيا.
وفي ملتقياتٍ دوليةٍ كثيرة، عبّرت مصر عن رؤيتها بأن حل الأزمة في ليبيا يكون بالتدخل العسكري، وليس بالحوار السياسي، وأعلنت استعدادها للتدخل في حالة توفر غطاء دولي، أو بتفعيل العلاقات الثنائية من خلال "مجلس النواب (طبرق)" والحكومة القريبة منه، حيث بدأ التعاون الوثيق بينهما، بداية من التعزيز المتبادل لطلب التدخل الدولي، والشروع في عقد اتفاقية للدفاع المشترك، تمنح مصر صلاحيات واسعة على الأراضي الليبية.
وإلى جانب الإطار الإقليمي والدولي لها، فإن السياسة المصرية سعت، في مسارات موازية، إلى وضع إطار دستوري للعلاقة مع ليبيا، باتفاقات عسكرية تتيح لها التدخل لحماية المؤسسات الليبية. وفي هذا السياق، ثار جدل حول توقيع اتفاقية عسكرية للدفاع المشترك، ولكن لم تتضح كيفية دخولها حيّز التنفيذ في ظل النزاعات الدستورية والسياسية في ليبيا، وهناك تفسير يذهب إلى أن الاتفاقية هي للتغلّب على معوّقات التدخل الدولي، لكنه، من الوجهة القانونية، يعدّ قرار مجلس الأمن 2174 السقف القانوني للتصرفات الدولية تجاه ليبيا، وبالتالي، فإن وجود اتفاقات أخرى (بفرض التصديق عليها) لا يمكنها تجاوز "الشرعية الدولية".
وحاولت مصر توظيف التعاون مع فرنسا والإمارات في تكوين إطار دولي، يعزز مسار التدخل العسكري في ليبيا، وكانت ذروة هذا التوجه في دعوة وزير الدفاع الفرنسي إلى مواجهة خطر الإرهاب في الجنوب الليبي، ومنعه من الانتشار في شمال البلاد، لكن الوزير الفرنسي لم يلقَ إسناداً من الرئيس فرانسوا هولاند. وتحت تأثير رفع المتظاهرين صوره، وتوجيه انتقادات مباشرة لسياسة فرنسا، حاول تفسير موقفه بأنه لم يَدعُ إلى التدخل، لكنه حذّر من وجود الإرهاب في شمال ليبيا.
استمر الموقف المصري في التبلور على مستويين؛ الأول، تقديم مساعدات غير مباشرة لفريق عملية الكرامة، وتسهيل اجتماعاته في القاهرة، وتوفير الإسناد السياسي لمجلس النواب (طبرق). وفي هذه الفترة، أثيرت اتهامات بضلوع مصر في شن غارات جوية على طرابلس. وعلى الرغم من نفي مصر، هناك قناعات لدى الليبيين بوجود محور مشترك، يضم مصر والإمارات وفرنسا، يهدف إلى تقويض ثورة فبراير.
يتعلّق المستوى الثاني بمساعدة الحكومة الليبية (عبد الله الثني) في الملتقيات الدولية، وهناك مسارات عديدة للدعم السياسي دولياً، كان أكثرها بروزاً في بلورة المبادرة الإقليمية وطرحها وثيقة أمام مجلس الأمن (27 أغسطس/ آب 2014). وأخيراً، حرصت القاهرة على وضع تصورها لملامح الحوار الوطني في ليبيا، حيث أشارت تصريحات وزارة الخارجية في ملتقى أسبانيا بشأن ليبيا (16 ـ 17 سبتمبر/ أيلول 2014)، إلى أن الحوار لا يشمل الجماعات المسلحة الإرهابية. وتكشف هذه الصياغات عن الرغبة في توسيع خيارات مصر بين التدخل المباشر ووضع إطار للحوار السياسي، يضمن استبعاد القوى التي تعارض الدور المصري في ليبيا.
تظاهرة في طرابلس ضد الثورة المضادة (13سبتمبر/2014/أ.ف.ب) |
القبول الدولي بالحوار
وعلى الرغم من استمرارية الموقف المصري نحو تفضيل التدخل العسكري، كان السياق الدولي والإقليمي يتبلور في اتجاه آخر، حيث يعمل، أساساً، على احتواء الصراع المسلح داخل نطاق الأراضي الليبية، والعمل على توفير مناخ سياسي لتسوية الأزمة السياسية. وفي أواخر أغسطس 2014، واجهت مصر اتهامات باختراق سيادة ليبيا، ومهاجمة مناطق في طرابلس. وجاءت الاتهامات من "قوات فجر ليبيا" والولايات المتحدة، كما أصدر الاتحاد الأوروبي تحذيراً من التدخل الإقليمي في ليبيا. وتضع هذه المواقف تعقيدات أمام السياسة المصرية في ليبيا، وتأتي هذه القيود من وجهة أن منظور البلدان الغربية صار يميل إلى أن التدخل الخارجي يزيد الصراع المسلح ويطيح الفرص الأخيرة للعملية السياسية. ولذلك، صارت المواقف من التدخل الخارجي ترتبط بأبعاد جيواستراتيجية، وليس هناك أطراف أخرى (غير مصر) تقبل بالتدخل الدولي في ليبيا، كما أن تفكك الكيانات العسكرية لعملية "الكرامة" في ليبيا، سواء في شرق ليبيا، أو بانهيارها في طرابلس، سوف يزيد الأعباء على السياسة الخارجية المصرية.
وعلى الرغم من تعقيدات المشهد الليبي، استقرت القرارات الدولية على أولوية الحلول السلمية. فقد أشار تقرير بعثة الأمم المتحدة إلى وجود إمكانيةٍ لمخرج سلمي للأزمة السياسية، عبر إطار الحوار الوطني الذي تشارك فيه كل الأطراف من دون استثناء. وقد اعتمدت جلسة مجلس الأمن (15 سبتمبر 2014)، على تقرير مبعوث الأمين العام أساساً للتواصل مع أطراف الأزمة السياسية، وأيضاً، للمناقشات الدولية بشأن ليبيا، بحيث يتكوّن إطار متماثل لتخفيف حدة الأزمة الليبية.
وتعدّ سياسة عدم التدخل استمراراً للمواقف الأميركية والأوروبية من الأزمة السياسية في ليبيا، حيث تشير البيانات الصادرة عن دول شركاء ليبيا إلى دعم المسار السياسي، من دون توجيه اتهامات مسبقة لأي طرف. ولعلّ الجوانب المشتركة لهذه المواقف تمثلت في استيعاب كل الكيانات الليبية في مسار الحوار السياسي، من دون التركيز على المسار العسكري حلاً وحيداً للأزمة، طريقاً لتوسيع الخيارات السياسية، نظراً لتعقّد أبعاد الصراع. وفي هذا السياق، تبلورت فكرة عدم التدخل، وخصوصاً لدى الولايات المتحدة، حيث دخول قوات دولية في ظل غياب المؤسسات والحد الأدنى من السلطة، سوف يفاقم الأزمة، ويعزز الصراع الاجتماعي. فعلى الرغم من وجود مجلس النواب سلطة تشريعية، إلا أنه يعاني من الانقسامات، ويصعب الاعتماد عليه قاطرة لإدارة الشؤون السياسية، والتصدي لمسألة الحوار السياسي.
القيود على السياسة المصرية
وفي هذا السياق، تواجه السياسة المصرية تجاه ليبيا معوّقات يحتمل أن تدفع باتجاه تغييرها أو حدوث تعديلات عليها؛ فعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقّعت مصر، إلى جانب إحدى عشرة دولة أخرى، على بيان مشترك، في 23 سبتمبر 2014، برعاية الاتحاد الأوروبي، يدعو إلى التعامل مع الأزمة في ليبيا، وفق مبدأ الحل السياسي بالحوار الوطني، ووقف إطلاق النار. وتشكل هذه الصيغة الإطار الواسع للتناول الدولي للأوضاع في ليبيا، حيث يشمل عدة دول تتخذ مواقف متناقضة ومتعارضة، كالإمارات ومصر وفرنسا من جهة، والجزائر وإيطاليا وتركيا وألمانيا وقطر من جهة أخرى، وهو، بذلك، يشكل الإطار الدولي الذي يشمل كل وجهات النظر والمصالح المتعددة تجاه منطقة البحر المتوسط، ويتضافر مقترح بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مع البيان المشترك، حيث وضع جدولاً للحوار الوطني، يتضمن تصحيح الوضع الدستوري لمجلس النواب، باعتباره المشكلة المحورية في الخلاف بين الأطراف الليبية.
ووفق هذه التفاعلات، يشكل البيان مرحلة متقدمة من تنفيذ قرار مجلس الأمن (2174)، فإلى جانب تأكيده على عدم التدخل العسكري، فإن توقيع مصر والإمارات والسعودية يعتبر تأكيداً لالتزامهم بالقرارات الدولية التي تقضي بمنع دخول السلاح عبر الحدود الليبية. ولعلّ الصيغة الدولية التي صدر بها البيان المشترك، تكشف عن الانتقال من الإطار الإقليمي وصيغة دول الجوار إلى شكل آخر من المناقشات والمفاوضات حول ليبيا، يكون من شأنها كبح التصرفات الفردية تجاه المسائل والأوضاع المعقدة في ليبيا، وهي تعني، بالأساس، فرض قيود واسعة على الدعم العسكري لأي من الأطراف الليبية. ويتضافر هذا التوجه الدولي مع رؤية بعض دول الجوار، وخصوصاً الجزائر والسودان وتونس، التي رفضت بوضوح التدخل العسكري في ليبيا.
وعلى المستوى الإقليمي، يتضح أنه منذ انعقاد لجنة دول جوار ليبيا في 25 يوليو 2014 في تونس، لم تكن هناك اتجاهات حاسمة في تأييد التدخل الدولي، وفي بيانها، في 25 أغسطس 2014، صارت تميل إلى أهمية مراعاة الجوانب السياسية في حل الأزمة الليبية، من دون التدخل العسكري الخارجي، ولكن صدور بيان مشترك بين وزارتي خارجية مصر وليبيا والذي يركز على النزع السريع لسلاح "الميليشيات المسلحة"، يعكس اختلاف الموقف المصري عن مواقف دول الجوار الأخرى، وقد اتضح في التضامن المصري مع حكومة عبد الله الثني وتعدّد الاجتماعات المشتركة، والإعلان عن خطط لتكوين الجيش الليبي وتدريبه. لكن معظم مواقف دول الجوار تشير إلى رفض التدخل الدولي، والعمل على مساعدة الليبيين في الوصول إلى حل سياسي. وكانت الجزائر صريحة في رفض التدخل الإقليمي أو الدولي، باعتباره تهديداً لأمن دول الجوار.
وبالإضافة إلى العوامل الدولية والإقليمية، حققت عملية فجر ليبيا إنجازات سياسية، ليس فقط عبر حسم الصراع العسكري في المنطقة الغربية وسيطرة الثوار على مناطق عديدة أخرى، ولكن، في قدرتها على تطوير الإطار السياسي بتشكيل حكومة الإنقاذ وتضامن البنك المركزي معها ووجود اعتراف ضمني من بعض الدول، مقارنة باندلاع الصراعات في مجلس النواب، وتأخره في تشكيل الحكومة، وانحسار سيطرته على الأراضي الليبية. وبهذا المعنى، يفقد حلفاء مصر الأرضية السياسية والعسكرية التي تساعد في ثبات مطالبهم.
ومع انتشار التصريحات المصرية بدعم مجلس النواب (طبرق) وقراراته، تتجه مواقف الرأي العام وعملية فجر ليبيا لاعتبار هذه المواقف عدائية وتدخلية. وبرزت تصريحات بضرورة إجراء تحقيق في الهجمات الجوية على طرابلس. وقد لقي التناول المصري للأزمة في ليبيا، توجهات سلبية تجاه الحكومة المصرية. وعلى الرغم من تجنب حكومة الإنقاذ (عمر الحاسي) التعليق على السياسة المصرية، يبدو أن ثمة اتجاهاً لدى شرائح اجتماعية للمطالبة بإعادة النظر في العلاقات الثنائية.
لعلّ المعضلة التي تواجه السياسة المصرية تجاه ليبيا تتمثّل في أنها اعتبرت الحسم العسكري بمساعدة خارجية (التدخل الدولي)، حلاً وحيداً، فيما أن كل المسارات الأخرى، دولياً وإقليمياً، وحتى داخل ليبيا، اتّسمت برفض التدخل العسكري. وهنا، تبدو فرص مصر محدودة في تبني مواقف مختلفة عن إطار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبيانات الصادرة بخصوص البدء في الحوار الوطني، ومناقشة الوضع الدستوري لمجلس النواب، وهي سياسات سوف تؤدي إلى نتائج، تكون منها مراجعة العلاقات الليبية ـ المصرية.