24 أكتوبر 2024
السياسة خطاباً أحادي الاتجاه
دارت، خلال العقود الثلاثة المنصرمة، أسئلة متنوعة، وعلى مستويات مختلفة، لتفسير تفارق السياسة في العالم العربي بين معناها وواقعها، وفقدانها أي مصداقية، فالهوة الواسعة بين الخطاب السياسي والواقع المفترض أن هذا الخطاب صادر عنه ومعبر عن احتياجاته واضحة للعيان. وفي حالاتٍ كثيرة، بدت هذه الهوة مقصودة، تستخدم لمزيد من تركيع المواطنين الذين عليهم أن يكيلوا المديح إلى ما هو كاذب، بحيث تبدو العلاقة بين السلطة والمواطن علاقة قمع من السلطة، وإعلان المواطن قبوله هذه السلطة من خلال الكذب، وإعلانه صحة الإنجازات التي تدّعيها السلطة، حتى الاحتفال بالهزائم بوصفها انتصارات.
في ظل هذا الواقع السياسي، لم يكن غريباً أن يُفرض على الشعوب العربية أن تحتفل بالمنجزات التنموية، في ظل ارتفاع متسارع في مؤشرات الفقر، أو الاحتفال بالمنجزات العلمية، عند افتتاح كل مدرسة في أي قريةٍ في ظل التردّي المرعب للعملية التعليمية. كان على الشعوب أن تحتفل بالديمقراطية في ظل أسوأ أنواع الدكتاتوريات، فلم يتورّع كل من الرئيسيين المخلوعين، اليمني علي عبد الله صالح والتونسي زين العابدين بن علي، عن إجراء "انتخابات تعدّدية"، اختار كل منهما منافسه. ولم ينتخب هذا المنافس نفسه في الصناديق، حتى تكون السخرية المرّة من آلية "تتفيه" القضايا عند حكام استباحوا كل شيء. وليس أدلّ على هذا الانفصام السياسي العميق في العالم العربي من توريث السلطة في سورية بين الأب والابن في دولةٍ جمهوريةٍ، يحكمها حزب يُفترض أنه علماني! وهنا كانت السخرية معجونة بالدم.
كيف وصل الواقع السياسي العربي إلى هذا المستوى من التردّي، وإلى هذا المستوى من الانفصام؟
التحولات التي خضعت لها التجربة السياسية العربية، منذ الاستعمار إلى عشية الثورات العربية، هي التي تفسّر حالة التردّي التي وصلت إليه دول المنطقة، ففي أثناء التصدي للاستعمار، دفعت الحركات التحرّرية بالمجتمع للمساهمة في النضال من أجل إنجاز الاستقلال الوطني. ومن جهةٍ أخرى، سمحت الإدارات الاستعمارية بهامش ديمقراطي من حرية التعبير عن الرأي، لتنفيس الاحتقانات داخل المجتمعات التي خضعت لسيطرتها، ولم تلاحق أحداً في هذه البلدان بسبب قناعاته الشخصية، وكان المواطن يستطيع التعبير عن وجهة نظره من دون أن يعاقب، وقد أطلق ياسين الحافظ على هذا الهامش تسمية "الديمقراطية الكولونيالية". وضمن هذه الديمقراطية المحدودة، استطاع المجتمع أن يعبر عن نفسه، وأن يحدّد خياراته، ويفرضها على المستعمر، كما استطاع أن يراقب حكوماته، وأن ينتقدها بحريةٍ كبيرةٍ، على الرغم من الوجود الاستعماري في هذه البلدان.
عوامل وأسباب داخلية عديدة تفوق أهمية التجربة الاستعمارية، ودورها في إعاقة تطور
المجتمع العربي. أسباب وعوامل من إنتاج محلي أوصلت البلدان العربية إلى وضعٍ، جعل التجربة الاستعمارية في غاية الجاذبية، إذا ما قورنت بما أسفرت عنه سلطاتنا "الوطنية" من تدمير وذبح لمجتمعاتها، ما كانت أردأ من الإدارات الاستعمارية وأكثرها تخلفاً لتقوم به.
بعد الاستقلال مباشرة، أخذت الحكومات الوطنية تتراجع عن الدعوات التي كانت قائمةً أيام التجربة الاستعمارية، من مشاركة المواطن في صنع السياسة، لأن هذه المشاركة أصبحت عائقاً أمام التحكم الكلي في السياسة الوطنية، وأخذت آليات الاستبعاد السياسي تفرض نفسها. وبحكم هشاشة الأنظمة الوطنية الوليدة، نظرت إلى النقد الموجه لها على أنه يشكل خطراً داهماً. وأخذت الدعوات تتعالى بشأن عدم صلاحية التعددية السياسية والديمقراطية للدول حديثة الولادة، وهو ترفٌ لا تحتاجه الدول حديثة الاستقلال، فهي تحتاج "الوحدة الوطنية" للحفاظ على الاستقلال.
شكلت هذه الحجج المدخل الطبيعي لعسكرة السياسة. وبدخول الجيوش، تم إلغاء مساحة العمل السياسي، بوصفه عملاً للمجتمع المدني. فمع الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة، بعد فترةٍ وجيزةٍ من الاستقلال، تم التأسيس لمصادرة السياسة نهائياً، التي أصبحت تُصنع في الدوائر العسكرية. وبالتالي، تم إلغاء هوامش حرية التعبير التي ورثتها هذه البلدان عن التجربة الاستعمارية، وأصبحت البلاغات العسكرية الانقلابية هي التي تحدّد الاتجاه السياسي للبلد المعني، وتم إلغاء المؤسسات التمثيلية. وعندما أعيد تشكيلها، كانت مفرغة تماماً من أي معنىً لها، لأنها أصبحت مؤسسات إجماع على سياسة المؤسسة العسكرية، وأصبح "المجتمع المدني" ملحقاً بما تمليه هذه المؤسسة.
من الطبيعي، أنه مع عسكرة السياسة، لا يتم إلغاء السياسة فحسب، بل إلغاء مؤسسات المجتمع المدني أيضاً، وهي التي تعبر عن استقلال المجتمع في مواجهة الدولة، فقد تم تضخيم الدولة على حساب المجتمع. وبدل أن تكون الدولة خادمةً المجتمع، أصبح المجتمع خادماً للسلطة. وبذلك، قبضت الدولة على المجتمع، وقبضت الأجهزة الأمنية على الدولة، وأصبحت الدولة المُعبِّر الوحيد، لا عن السياسة فحسب، بل وعن كل قطاعات المجتمع رغماً عنها أيضاً. وبالتالي، أصبح أي تعبيرٍ آخر عن موقف سياسي مختلف غير مسموح به، والخطاب السياسي الوحيد السائد هو الذي يجترّ خطاب السلطة ذاتها. وتحولت المعارضة إلى واحدٍ من ضروب الانتحار، بحيث تحولت إما إلى نزلاء سجون خارج إطار أي قانون، أو إلى منفيين فارين.
مع صمت القبور الذي سمته السلطاتُ "استقرارا"، الذي شهدته المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، أخذ الخطاب الوحيد للسلطة الحاكمة يتمكّن أكثر من السيطرة على المجتمعات العربية، وكلما تعزّزت هذه السيطرة، كان الحقل السياسي يضيق أكثر على أي تعبيراتٍ سياسيةٍ خارجةٍ عن النظام السياسي المسيطر. وبذلك، تحولت اللعبة السياسية إلى لعبةٍ تناحرية، ففقدان هامش التعبير في الحقل السياسي العربي دفع المعارضات إلى سلوك سياسي يائس، أخذ الطابع العنفي للتعبير عن الاحتقانات التي تعاني منها هذه المجتمعات. بمعنى آخر، تم تحويل المعارضة السياسية، في ظل القبضة الأمنية والسياسية، من معارضةٍ مهمتها مراقبة السلطة ونقدها وتصحيح مسارها والسعي إلى الوصول إلى السلطة، من خلال العملية الديمقراطية وتداول السلطة، من خلال حرية التعبير والنقد وحرية الصحافة وتضامن مؤسسات المجتمع المدني، إلى معارضةٍ تدميرية، مهمتها إحراج الأنظمة والتدليل على سياستها الهشّة، خصوصاً في المواقع
التي تعتبرها السلطة مواقع قوتها، وهي السياسة الأمنية. فكان أن ولدت المعارضة العدمية، وهي من طينة الأنظمة نفسها التي شكلت الحركات الدينية المتطرفة نموذجها الأبرز. ولا يفسّر توجّه هذه الحركات باتجاه العمل الإرهابي إلغاء الحقل السياسي فحسب، بل ترافق هذا الإلغاء مع تردّي الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لقطاعاتٍ متزايدةٍ من المجتمعات العربية، وتوسّعت أحزمة البؤس المحيطة بالمدن العربية الكبيرة، ما أنتج بيئةً ملائمةً لنمو هذه الحركات الإرهابية بين جيلٍ من الشباب، لا يعني المستقبل له سوى مزيدٍ من المعاناة والضغوط، لا أفقاً فيه لتحقيق الأحلام. حيث شبّ، خلال العقدين الأخيرين، جيلٌ يائسٌ يرى طريق المستقبل أمامه مسدوداً، ولا خيار أمامه، في ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها، سوى الوقوع في دوامة اليأس، والاندفاع في طرقٍ يائسةٍ للتعبير عن احتجاجه على الأوضاع المتردّية التي يعاني منها، ولا شك أن هذه البيئة ملائمة ونموذجية لنمو الحركات الإرهابية والمتطرفة.
إن اعتبار السياسة مهنة محرّمة على الآخرين وقصرها فقط على السلطة السياسية، وإلغاء حقل الممارسة السياسية للقوى الأخرى، وقبض الدولة على كل مداخل المجتمع المدني ومخارجه، وإخضاعه، بطرقٍ قسريةٍ، لمتطلبات السلطة السياسية، عمل ذلك كله، خلال سنوات طويلة، على إفقاد السياسة معناها، وأصبحت خطاباً مرسلاً باتجاهٍ واحد من الأعلى إلى الأسفل، وبحكم الضغوط الشديدة التي تعرّضت لها المجتمعات العربية من السلطة السياسية، فقد تم تفريغ المجتمع وقواه الحية من القدرة على التعبير عن نفسها، وأصبح هناك خطابٌ واحدٌ يفرض نفسه على المجتمع الذي تضطر قطاعات المجتمع لتكراره تحت ضغوط الإكراه والإذعان. وليس غربياً، في مثل هذه الظروف، أن يتحول خطاب السلطة إلى خطابٍ إنشائيٍّ ينتج نفسه بعيداً عن أي واقع، تعيد السلطة، من خلاله، إنتاج رغباتها وتحويل سلوكها السياسي إلى إنجازاتٍ عظيمة، في الوقت الذي يتناقض هذا الإنشائي مع كل المعطيات التي تظهر على سطح الواقع العربي بشكل صارخ، لتقول إن الواقع العربي لا يمت بصلةٍ إلى ما يتحدث عنه خطاب السلطة.
لكل هذه الأسباب وما يفيض عنها، كانت البلدان العربية مهيأةً للثورات التي اندلعت، كاشفةً عن مستويات أعمق لواقع خراب السلطات العربية، وكاشفةً لدور تخريبي وتآمري وتدميري لهذه السلطات، يفوق كل خيال.
في ظل هذا الواقع السياسي، لم يكن غريباً أن يُفرض على الشعوب العربية أن تحتفل بالمنجزات التنموية، في ظل ارتفاع متسارع في مؤشرات الفقر، أو الاحتفال بالمنجزات العلمية، عند افتتاح كل مدرسة في أي قريةٍ في ظل التردّي المرعب للعملية التعليمية. كان على الشعوب أن تحتفل بالديمقراطية في ظل أسوأ أنواع الدكتاتوريات، فلم يتورّع كل من الرئيسيين المخلوعين، اليمني علي عبد الله صالح والتونسي زين العابدين بن علي، عن إجراء "انتخابات تعدّدية"، اختار كل منهما منافسه. ولم ينتخب هذا المنافس نفسه في الصناديق، حتى تكون السخرية المرّة من آلية "تتفيه" القضايا عند حكام استباحوا كل شيء. وليس أدلّ على هذا الانفصام السياسي العميق في العالم العربي من توريث السلطة في سورية بين الأب والابن في دولةٍ جمهوريةٍ، يحكمها حزب يُفترض أنه علماني! وهنا كانت السخرية معجونة بالدم.
كيف وصل الواقع السياسي العربي إلى هذا المستوى من التردّي، وإلى هذا المستوى من الانفصام؟
التحولات التي خضعت لها التجربة السياسية العربية، منذ الاستعمار إلى عشية الثورات العربية، هي التي تفسّر حالة التردّي التي وصلت إليه دول المنطقة، ففي أثناء التصدي للاستعمار، دفعت الحركات التحرّرية بالمجتمع للمساهمة في النضال من أجل إنجاز الاستقلال الوطني. ومن جهةٍ أخرى، سمحت الإدارات الاستعمارية بهامش ديمقراطي من حرية التعبير عن الرأي، لتنفيس الاحتقانات داخل المجتمعات التي خضعت لسيطرتها، ولم تلاحق أحداً في هذه البلدان بسبب قناعاته الشخصية، وكان المواطن يستطيع التعبير عن وجهة نظره من دون أن يعاقب، وقد أطلق ياسين الحافظ على هذا الهامش تسمية "الديمقراطية الكولونيالية". وضمن هذه الديمقراطية المحدودة، استطاع المجتمع أن يعبر عن نفسه، وأن يحدّد خياراته، ويفرضها على المستعمر، كما استطاع أن يراقب حكوماته، وأن ينتقدها بحريةٍ كبيرةٍ، على الرغم من الوجود الاستعماري في هذه البلدان.
عوامل وأسباب داخلية عديدة تفوق أهمية التجربة الاستعمارية، ودورها في إعاقة تطور
بعد الاستقلال مباشرة، أخذت الحكومات الوطنية تتراجع عن الدعوات التي كانت قائمةً أيام التجربة الاستعمارية، من مشاركة المواطن في صنع السياسة، لأن هذه المشاركة أصبحت عائقاً أمام التحكم الكلي في السياسة الوطنية، وأخذت آليات الاستبعاد السياسي تفرض نفسها. وبحكم هشاشة الأنظمة الوطنية الوليدة، نظرت إلى النقد الموجه لها على أنه يشكل خطراً داهماً. وأخذت الدعوات تتعالى بشأن عدم صلاحية التعددية السياسية والديمقراطية للدول حديثة الولادة، وهو ترفٌ لا تحتاجه الدول حديثة الاستقلال، فهي تحتاج "الوحدة الوطنية" للحفاظ على الاستقلال.
شكلت هذه الحجج المدخل الطبيعي لعسكرة السياسة. وبدخول الجيوش، تم إلغاء مساحة العمل السياسي، بوصفه عملاً للمجتمع المدني. فمع الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة، بعد فترةٍ وجيزةٍ من الاستقلال، تم التأسيس لمصادرة السياسة نهائياً، التي أصبحت تُصنع في الدوائر العسكرية. وبالتالي، تم إلغاء هوامش حرية التعبير التي ورثتها هذه البلدان عن التجربة الاستعمارية، وأصبحت البلاغات العسكرية الانقلابية هي التي تحدّد الاتجاه السياسي للبلد المعني، وتم إلغاء المؤسسات التمثيلية. وعندما أعيد تشكيلها، كانت مفرغة تماماً من أي معنىً لها، لأنها أصبحت مؤسسات إجماع على سياسة المؤسسة العسكرية، وأصبح "المجتمع المدني" ملحقاً بما تمليه هذه المؤسسة.
من الطبيعي، أنه مع عسكرة السياسة، لا يتم إلغاء السياسة فحسب، بل إلغاء مؤسسات المجتمع المدني أيضاً، وهي التي تعبر عن استقلال المجتمع في مواجهة الدولة، فقد تم تضخيم الدولة على حساب المجتمع. وبدل أن تكون الدولة خادمةً المجتمع، أصبح المجتمع خادماً للسلطة. وبذلك، قبضت الدولة على المجتمع، وقبضت الأجهزة الأمنية على الدولة، وأصبحت الدولة المُعبِّر الوحيد، لا عن السياسة فحسب، بل وعن كل قطاعات المجتمع رغماً عنها أيضاً. وبالتالي، أصبح أي تعبيرٍ آخر عن موقف سياسي مختلف غير مسموح به، والخطاب السياسي الوحيد السائد هو الذي يجترّ خطاب السلطة ذاتها. وتحولت المعارضة إلى واحدٍ من ضروب الانتحار، بحيث تحولت إما إلى نزلاء سجون خارج إطار أي قانون، أو إلى منفيين فارين.
مع صمت القبور الذي سمته السلطاتُ "استقرارا"، الذي شهدته المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، أخذ الخطاب الوحيد للسلطة الحاكمة يتمكّن أكثر من السيطرة على المجتمعات العربية، وكلما تعزّزت هذه السيطرة، كان الحقل السياسي يضيق أكثر على أي تعبيراتٍ سياسيةٍ خارجةٍ عن النظام السياسي المسيطر. وبذلك، تحولت اللعبة السياسية إلى لعبةٍ تناحرية، ففقدان هامش التعبير في الحقل السياسي العربي دفع المعارضات إلى سلوك سياسي يائس، أخذ الطابع العنفي للتعبير عن الاحتقانات التي تعاني منها هذه المجتمعات. بمعنى آخر، تم تحويل المعارضة السياسية، في ظل القبضة الأمنية والسياسية، من معارضةٍ مهمتها مراقبة السلطة ونقدها وتصحيح مسارها والسعي إلى الوصول إلى السلطة، من خلال العملية الديمقراطية وتداول السلطة، من خلال حرية التعبير والنقد وحرية الصحافة وتضامن مؤسسات المجتمع المدني، إلى معارضةٍ تدميرية، مهمتها إحراج الأنظمة والتدليل على سياستها الهشّة، خصوصاً في المواقع
إن اعتبار السياسة مهنة محرّمة على الآخرين وقصرها فقط على السلطة السياسية، وإلغاء حقل الممارسة السياسية للقوى الأخرى، وقبض الدولة على كل مداخل المجتمع المدني ومخارجه، وإخضاعه، بطرقٍ قسريةٍ، لمتطلبات السلطة السياسية، عمل ذلك كله، خلال سنوات طويلة، على إفقاد السياسة معناها، وأصبحت خطاباً مرسلاً باتجاهٍ واحد من الأعلى إلى الأسفل، وبحكم الضغوط الشديدة التي تعرّضت لها المجتمعات العربية من السلطة السياسية، فقد تم تفريغ المجتمع وقواه الحية من القدرة على التعبير عن نفسها، وأصبح هناك خطابٌ واحدٌ يفرض نفسه على المجتمع الذي تضطر قطاعات المجتمع لتكراره تحت ضغوط الإكراه والإذعان. وليس غربياً، في مثل هذه الظروف، أن يتحول خطاب السلطة إلى خطابٍ إنشائيٍّ ينتج نفسه بعيداً عن أي واقع، تعيد السلطة، من خلاله، إنتاج رغباتها وتحويل سلوكها السياسي إلى إنجازاتٍ عظيمة، في الوقت الذي يتناقض هذا الإنشائي مع كل المعطيات التي تظهر على سطح الواقع العربي بشكل صارخ، لتقول إن الواقع العربي لا يمت بصلةٍ إلى ما يتحدث عنه خطاب السلطة.
لكل هذه الأسباب وما يفيض عنها، كانت البلدان العربية مهيأةً للثورات التي اندلعت، كاشفةً عن مستويات أعمق لواقع خراب السلطات العربية، وكاشفةً لدور تخريبي وتآمري وتدميري لهذه السلطات، يفوق كل خيال.