بعد مهرجاني "أسوان الدولي لأفلام المرأة" (الدورة الثالثة، 20 ـ 26 فبراير/ شباط 2019)، و"شرم الشيخ للسينما الآسيوية" (الدورة الثالثة، 2 ـ 8 مارس/ آذار 2019)، يزداد إلحاح السؤال المتعلّق بإقامة مهرجانات سينمائية عربية، ذات طابع دولي، في المدن ـ الأطراف ("العربي الجديد"، 1 مارس/ آذار 2019). إلحاح ينطلق من الهوّة السحيقة بين منطقين يتناقض أحدهما مع الآخر: حِرفية سينمائية تُعطَّلها السياسة، وسياسة تستخدم، أو تحاول أن تستخدم السينما لأغراضٍ غير سينمائية.
يصعب التغاضي عن التداخل الخطر بين السياسة والسينما. بالأحرى، هذا ليس تداخلاً بل تسلّطًا. السياسة منشغلةٌ بتحطيم كلّ شيء، والسينما تختلف عنها في التحطيم الذي تُمارسه. الأولى تهدف إلى إلغاء كلّ شيء، بتحطيمه. الثانية تنصرف إلى التحطيم لصُنع مختلفٍ وجديدٍ ومُغاير، ولكشفٍ وفضحٍ وتعرية. السياسة في مصر تُسخِّر السينما لأغراضٍ لا علاقة لها بها. تقترح تنظيم مهرجان سينمائي هنا وهناك، لكنها ـ بعد اختيار مهنيين وحِرفيين ـ تُعرقل كلّ ما هو فاعل ومؤثّر إيجابيًا. تضع مهنيين وحِرفيين في الواجهة، لكنها تحول دون اشتغالٍ يُفترض به أن يُنتج تأثيرًا إيجابيًا متنوّعًا. تُريد السينما غطاءً لها، وعندما تحاول السينما، عبر مهنيين وحِرفيين، أن تصنع جميلاً وعميقًا ومُهمًّا، تنفضّ السياسة عنها، واضعةً عوائق جمّة أمامها. السياسة تُدرك قدرة السينما على التأثير، بشكلٍ أو بآخر، فتُمسك بخناقها، مانعة إياها من تحقيق ماهيتها الإبداعية والسجالية، ومن ترتيب أمور مهرجان سينمائي عليه أن يليق بالسينما والناس.
هذا حاصلٌ في مهرجانين اثنين يُقامان في مدينتين بعيدتين عن العاصمة المصرية. أسوان أقدر على التأقلم مع السينما من شرم الشيخ، إنْ تسمح السياسة بذلك. الأولى مدينة عريقة، لها تاريخ وحضارة وثقافة وحضور. الثانية سياحية بحتة، يُراد لها تنفيسًا لاحتقان العاصمة، فيأتيها مصريون راغبون في راحة مؤقّتة وقادرون ماليًا عليها، وعربٌ يريدون تسلية، وأجانب يمضون أيامًا للتمتّع بشمسٍ غير موجودة في بلادهم، وببحرٍ له سحرٌ مغاير، وهؤلاء جميعهم غير آبهين بالسينما. الأولى أصيلة، تمتلك إمكانية التواصل مع مهرجانٍ سينمائيّ، يُضيف إليها فتمنحه شرعية حضور واستمرارية، شرط العمل الدؤوب في هذا الاتّجاه من دون عراقيل السياسة. الثانية طارئة، فالقادمون إليها عابرون، وبُنيتها غير مصنوعة لمهرجانٍ سينمائي ولاستمراريته، فلا أبناء لها ولا مقيمين دائمين فيها غير عاملين في مؤسّسات سياحية، وهؤلاء غير آبهين بغير العمل وجمع المال. والمُقيمون فيها صيفًا منصرفون إلى أهواء غير سينمائية.
النيّة الصافية والصادقة حسنة، لكنها وحدها غير كافية. المحترفون صادقون وبارعون في اختصاصاتهم السينمائية، لكن السياسة أقوى فهي الآمر الناهي. يُكلَّف سينمائيٌّ بوظيفة أساسية في هذا المهرجان أو ذاك (هالة جلال مديرة فنية لمهرجان أسوان، ومجدي أحمد علي رئيسًا لمهرجان شرم الشيخ)، وهذا صحّي وضروري ومطلوب، لكن السياسة تمنع المهنيّ والحِرفيّ من ممارسة ما تجب ممارسته لإنجاح نشاطٍ كهذا. لمهرجان أسوان رئيسٌ (محمد عبد الخالق) ومدير (حسن أبو العلا)، وجمعية (باسم المهرجان) وسلطات تتوزّع بين وزارات وأجهزة ثقافية رسمية ومؤسّسات معنية بالمرأة، بالإضافة إلى المحافظ. لمهرجان شرم الشيخ رئيسٌ بالتأكيد، ومعه 4 مدراء: تنفيذي (وديد شكري) وفني (محمد سيد عبد الرحيم) وفني تنفيذي (جيهان عبد اللطيف)، بالإضافة إلى مدير المهرجان (مصطفى الكيلاني)، من دون تناسي "مؤسّسة نون للثقافة والفنون" صانعة المهرجان، والوزارات نفسها، والمرجعيات السياسية نفسها. كثرة المناصب الأساسية في مهرجان ما تصنع عراقيل. هذا تضييع لهيكلية إدارية متماسكة، ناهيك عن قلّة خبرة مُعيَّنين في مناصب كهذه، فإذا بالفوضى وسوء التنظيم وغياب صالات سينمائية معنية بعرض سينمائي سوي تسود المهرجان وأيامه.
فهل تظنّ السياسة أن السينما قادرة على تنشيط سياحي لبقعة جغرافية، تعاني خللاً وارتباكًا هما امتداد لخلل الحالة العامة في البلد وارتباكها؟ هل تظنّ السياسة أن السينما قادرة على تحسين واقع مُصاب بانهيارات شتّى؟ وإنْ تكن السياسة "مقتنعة" بهذا، فلماذا تُعرقل وتمنع وتخربط؟ قلّة الخبرة والمهنيّة والحِرفية تُصيب النيّة الحسنة والصادقة والصافية بمَقْتلٍ، وتُشوِّه مصداقية المهنيّ والحرفيّ، وتعيق عملهما.
المهرجانات السينمائية المُقامة في المدن ـ الأطراف حاجة ومطلب، لكن الحاجة والمطلب يحتاجان إلى خطط عملية بعيدة المدى، وإلى بنى تحتية، وإلى فصل تامٍ للسياسة عن السينما، إنْ تكن الأولى سلطة حاكمة. فهل تتمكّن المدن ـ الأطراف من الحصول على هذا، أم سيبقى هذا مجرّد تمنّياتٍ لن تتحقّق؟