يواصل النظام المصري استهداف الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية في البلاد، بالمصادرة ومنع المقالات والحجب، مما يطرح سؤالاً هاماً "هل يريد النظام صحافة مهنية ومستقلة؟" وينعكس هذا النهج بوضوح عبر قرار استمرار إيقاف مقالات الكاتب الصحافي، عبد الله السناوي، في صحيفة "الشروق" المصرية الخاصة، على مدى الأسابيع الماضية، علماً أن المقالات الممنوعة نُشرت في صحيفة عربية.
وقد وصف الكاتب الصحافي ونقيب الصحافيين السابق، يحيى قلاش، هذه الواقعة، بـ "تغييب لقلم وطني ورصين وعاقل ومستنير"، لافتاً إلى أن "تجفيف مداد الأقلام لا يحقق أي مكاسب، بل هو خسارة يدفع ثمنها الوطن".
وسبق منع مقالات السناوي منع مقالة للكاتب الصحافي المصري عبد العظيم حماد، في الصحيفة نفسها. وتكرر الأمر أيضاً مع الكاتب الصحافي أيمن الصياد، خلال الأسابيع القليلة الماضية.
خلال الفترة نفسها، صادر النظام المصري صحيفة "الأهالي"، الناطقة باسم "حزب التجمع اليساري المصري". إذ تلقت الصحافية ورئيسة تحرير صحيفة "الأهالي"، أمينة النقاش، اتصالاً هاتفياً، في وقت متأخر من مساء يوم 28 مايو/أيار الماضي، من أحد أعضاء الأمانة العامة لـ "المجلس الأعلى للإعلام"، أخبرها باعتراض الرقيب على تحقيق صحافي ضمّه عدد الصحيفة التي كانت تحت الطبع حينها. انصب اعتراض الرقيب على تحقيق يحتل صفحتين كاملتين من العدد، يتناول حصول بعض المُدانين في قضايا وصفتها النقاش، في مكالمة هاتفية، بـ "قضايا عنف"، على عفو رئاسي. وطالب عضو الأمانة العامة النقاش بحذف التحقيق واستبداله كي يتسنّى طبع الصحيفة.
ما حدث مع "الأهالي" يتكرر يومياً مع الصحف الحكومية والخاصة كافة، سواء تلك التي استُحوذ عليها أو التي أُخضعت وأصبحت تسير في خط تحريري معين. إلا أن الجديد هو أن رئيسة تحرير "الأهالي" و"حزب التجمع" تحدّثا علناً في بيان رسمي عن الموضوع. وقال الحزب إنه بعد التشاور مع مجلس التحرير وقيادة الحزب رفض طلب الحذف أو التعديل، مما أدى إلى وقف الطبع.
ومن هنا لا بد أن يتغير السؤال من "هل يريد النظام صحافة مستقلة ومهنية؟" إلى "هل يمكن أن تكون هناك صحافة جادة تحت سقف منخفض؟". وللإجابة عن هذا السؤال وغيره، تجب الإشارة أولًا إلى أن "الأهالي" لم تكن الصحيفة الوحيدة التي تعرضت للمصادرة خلال السنوات القليلة الأخيرة، فقد سبقتها صحف أخرى مثل: "المصريون" و"الدستور" و"صوت الأمة" و"الصباح" و"البوابة". بعض هذه الصحف تم وقف طباعتها أو منع الطباعة أو جُمعت بعد الطبع وقُطعت.
مؤسسة "حرية الفكر والتعبير" المصرية غير الحكومية أجابت عن بعض الأسئلة المتعلقة بالرقابة على الصحف في مصر، عبر ورقة قانونية مخصصة لواقعة مصادرة صحيفة "الأهالي". وشددت فيها المؤسسة على أن "القانون يعارض الدستور"؛ على الرغم من أن الدستور المصري أعطى الصحافة بأنواعها المختلفة حرية مطلقة، إذ "يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة"، إلا أن القانون "رقم 180 لسنة 2018"، والمسمى بـ "قانون تنظيم الصحافة واﻹعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام"، وضع قيوداً مكبِّلة لحرية الصحافة في مخالفةٍ ﻷحكام الدستور.
القانون المذكور توسّع في منح "المجلس اﻷعلى للإعلام" صلاحيات الحجب والمنع والمصادرة للصحف والوسائل الإعلامية المصرية، وفقاً لمعايير فضفاضة قابلة للتأويل مثل "اﻵداب العامة" و"النظام العام" و"اﻷمن القومي". وقد نصت "المادة الرابعة" من "الباب اﻷول" في القانون على أنه "يُحظر على المؤسسة الصحافية والوسيلة الإعلامية والموقع الإلكتروني نشر أو بث أي مادة أو إعلان يتعارض محتواه مع أحكام الدستور، أو تدعو إلى مخالفة القانون، أو تخالف الالتزامات الواردة في ميثاق الشرف المهني، أو تخالف النظام العام والآداب العامة، أو يحض على التمييز أو العنف أو العنصرية أو الكراهية. وللمجلس الأعلى، للاعتبارات التي يقتضيها الأمن القومي، أن يمنع مطبوعات، أو صحفًا، أو مواد إعلامية أو إعلانية، صدرت أو جرى بثها من الخارج، من الدخول إلى مصر أو التداول أو العرض".
وهكذا دللت الورقة القانونية على أن "القانون أطاح بالحرية الممنوحة للصحافة وفقاً للدستور، ونصَّب (المجلس اﻷعلى للإعلام) رقيباً على الصحف يتدخل بالقص والحذف والتعديل والمنع والمصادرة إذا تراءى له ذلك. إلا أنه رغم تلك السلطات الواسعة الممنوحة للمجلس فإن الجماعة الصحافية لا يزال لديها هاجس بأن اﻷجهزة اﻷمنية هي صاحبة اليد العليا فيما يتعلق برسم السياسات التحريرية للصحف ووسائل اﻹعلام".
وفي هذا السياق، أوضح عضو مجلس نقابة الصحافيين المصرية، محمد سعد عبد الحفيظ، لـ "مؤسسة حرية الفكر والتعبير"، أنه على الرغم من أن "قانون المجلس اﻷعلى للإعلام" أعطى سلطة المصادرة للمجلس، إلا أن الطريقة القديمة لا تزال هي المعمول بها. وأضاف عبد الحفيظ أنه "يوجد شخص خفي يتبع جهة ما تابعة للجهة التنفيذية في المطابع، ويعمل على رسم السياسة التحريرية للصحف المصرية. هذا الرقيب الذي يعمل خارج إطار القانون يرسل تعليماته للمسؤولين عن تحرير الصحف عبر مجموعة شهيرة بين الجماعة الصحافية على تطبيق التراسل واتساب".
من جهة ثانية، أشار عضو مجلس نقابة الصحافيين السابق، خالد البلشي، إلى أن المشكلة تكمن في معظم الأحيان في أن المسؤولين عن تحرير الصحف يفضّلون حل الموضوع ودياً وعدم تصعيد الأمور. وقال البلشي "حين كنت عضواً في المجلس تم وقف طباعة صحيفة (الصباح) بسبب مقالة متعلقة بمحمد بدران (الرئيس السابق لحزب مستقبل وطن). تواصلت وقتها مع وائل لطفي، رئيس التحرير، وفضل عدم تصعيد الموضوع".
واتفق معهما الناشر المصري هشام قاسم، في أن "الإعلام المصري يتلقى ضربة قاصمة ويتعرض لتخريب غير مسبوق في تاريخ مصر، يأتي هذا في وقت يشهد الإعلام في العالم كله مرحلة تحول كبيرة، فما كان يجب أن يشغل الجماعة الصحافية في هذا الوقت هو كيفية التحول إلى إعلام رقمي مدفوع وإمكانات تطور المهنة، لا الحجب والمصادرة".
أما عن الموقف القانوني لـ "مؤسسة حرية الفكر والتعبير"، فقد قالت إنها ترى أن مصادرة صحيفة "اﻷهالي" وما سبقها من صحف ومحاولات الدولة الدؤوبة للتدخل في السياسات التحريرية للوسائل اﻹعلامية بصفة عامة يأتي في سياق أوسع تعمل فيه الدولة لإحكام السيطرة على المشهد الإعلامي برمّته. فمن ناحية أولى، شهدت الساحة اﻹعلامية في السنوات الخمس اﻷخيرة عمليات استحواذ واسعة على أغلب المنصات اﻹعلامية الخاصة، من قبل أطراف تحوم حول علاقتها باﻷجهزة اﻷمنية شكوك.
ومن ناحية أخرى، عمدت الدولة إلى سنِّ ترسانة من التشريعات تُحكِم من خلالها الرقابة على اﻹعلام بشعبه المختلفة: المرئي والمسموع والمقروء، الورقي منه واﻹلكتروني. من أمثلة تلك القوانين: قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وقانون تنظيم الصحافة واﻹعلام والمجلس اﻷعلى لتنظيم اﻹعلام وقانون الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام.
وأضافت المؤسسة "في سياق كهذا، يتعرض اﻹعلام المصري لضربات متلاحقة، ليس أولها عمليات الحجب الواسعة لمواقع الوِب التي شهدتها مصر خلال العامين الماضيين، والتي نتج عنها حجب 528 موقعًا، من بينها 103 مواقع صحافية"، وليس آخرها منع طباعة/ مصادرة "اﻷهالي".
ورأت المؤسسة أن تلك الضربات القاصمة التي تتعرض لها الصحافة واﻹعلام في مصر ليست خطراً على الحقوق والحريات العامة التي نادت بها المواثيق الدولية وكفلها الدستور فحسب، وإنما تمثل خطرًا أكبر على الصناعة ذاتها والعاملين فيها.