01 أكتوبر 2022
الصقور يصنعون السلام
أذكر جيداً ذلك اليوم من عام 2007، بعد فترة قصيرة من تنفيذ حركة حماس العملية التي أطلقت عليها "الحسم العسكري" في قطاع غزة. أعلن الإعلام الحمساوي عن مؤتمر صحافي مهم، وبعد ترقب لم يطل، ظهر القيادي خليل الحية، وكنت أسمع اسمه للمرة الأولى وقتها، ليتحدث عمّا وجدوه داخل مقار الأجهزة الأمنية التي اقتحموها، أدلة الخيانة من أجهزة تسجيل تتجسّس لصالح التنسيق الأمني، وكذلك أدلة الانحطاط من تسجيلات جنسية تم تصويرها لمسؤولين كبار للسيطرة عليهم، وبعضها كانت في إطار المنافسة بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وبعضها.
في العام التالي 2008، فقد الحية نجله حمزة بصاروخ إسرائيلي في أثناء محاولة لاغتياله، ولاحقاً فقد زوجته وثلاثة أبناء في محاولة تالية عام 2014.
ثم تدور الأيام ويعلن خليل الحية نفسه، لا غيره، في مطلع أغسطس/ آب الماضي أن حركته توصلت إلى تفاهمات مع محمد دحلان، العدو اللدود قائد الأجهزة الأمنية التي سجلت ما كشفه الحية قبل سنوات. وللمفارقة كان أبرز التفاهمات إنشاء الصندوق الوطني للمصالحة المجتمعية، وهو ما تم لاحقاً بالفعل، وبدأ تسلم العائلات بالفعل للدية التي تقدر بخمسين ألف دولار للقتيل.
في الواقع، هذا التاريخ الشخصي هو تحديداً ما أهّل الحية للعب هذا الدور. لا أحد يمكنه المزايدة عليه في العداء لدحلان والتشدّد ضده، أو في التضحية لأجل الوطن.
ينطبق الوضع نفسه على التشكيلة الحالية من قيادة "حماس"، بدءاً من القائد العام يحيي السنوار، الذي أمضى 23 عاماً متواصلة أسيرا في السجون الإسرائيلية حتى خرج في صفقة تبادل شاليط عام 2011، وفوراً تم انتخابه ليكون مشرفاً على كتائب القسام، وبالمثل مساعده الأقرب صالح العاروري الذي شارك في تأسيس كتائب القسام في الضفة الغربية في 1991 و1992، وسُجن 18 عاما أسيرا لدى الاحتلال عاماً كاملة، ومعروف بعلاقاته الوثيقة بالإيرانيين.
حين انتُخب السنوار، كُتبت أطنان من التحليلات عن دلالة اختيار هذا الرجل العسكري القوي في رئاسة الحركة مكاناً لإسماعيل هنية، قيل إن هذا يعني أن الحركة ستصبح أكثر تشدداً ضد مصر و"فتح"، وستدفع إلى إنهاء الهدنة مع إسرائيل، والدخول في حرب قريبة، لكن ما حدث بالفعل هو عكس كل المتوقع.
فقط السنوار ورجاله هم المؤهلون، لا غيرهم، لوضع أيديهم في أيدي أعدائهم السابقين، الأيدي نفسها التي طالما حملت السلاح.
يتكرّر الموقف نفسه في تجارب دولية عديدة. كان نيلسون مانديلا مشاركاً في تأسيس الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، تنظيم "رمح الأمة"، وفي مرافعته بعد القبض عليه دافع عن حق قومه في القتال لأجل حقوقهم، وبعدها بقي في السجن 27 عاماً.
لهذا، كان هذا الرجل، لا غيره، هو من يمكنه اتخاذ اجراءات مصالحة وطنية متساهلة جداً على أي مقياس ثأري، وهو من سمح بمنظومة "الحقيقة والمصالحة"، وسمح بإفلات الفصل العنصري من العقاب، ولم يتخذ أية إجراءات انتقامية من الماضي، فلا مصادرات لمزارع أو أراضي المنحدرين من الأعراق الأوروبية.
وبالمثل كانت قصة مصالحة الجيش الجمهوري الأيرلندي مع بريطانيا، كان لابد أن يتولاها جيري أدامز، أحد الأربعة الكبار في المنظمة، والذي تم اعتقاله في السبعينات، وصاحب السجل الناصع في مقاومة لندن بكل الصور.
ليس تفسير تلك الظاهرة صعباً، فإبرام أي اتفاق سياسي وإلزام القواعد به يتطلب قدراً من النفوذ، ومصدره أولا صاحب شرعية تنظيمية، أي في موضعٍ يسمح له لأن يلقي أوامر تحرك آلاف الأعضاء، وثانياً يجب أن يكون صاحب شرعية سياسية معنوية، تمكنه من الترفع فوق المزايدات.
وبالإضافة إلى ذلك، يدرك "الصقور" الحقيقيون موازين القوى، ويتصرفون بناء عليها، حتى لو بتراجع مؤقت لالتقاط الأنفاس لا أكثر. وبهذا المنطق، يروج في أوساط "الإخوان المسلمين" أن فض الاعتصام في ميدان النهضة تم بدون خسائر فادحة، على غير ما وقع في فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، لأن "النهضة" كان تحت إدارة فصائل إسلامية أكثر تشدّداً كالجهاد وغيرها، وتصدى هؤلاء بحسم لقوة توجهت إليهم من قسم الشرطة التابعين له، لكنهم بمجرد رؤية جرافات الجيش انسحبوا فوراً.
عادة ما يدمر الصقور محاولات العقل أو حلول الوسط، لكن ليس ثمة من هو أفضل منهم لو اقتنعوا أو فُرض عليهم الاقتناع.
هل يمكن أن يفاجأ الوسط السياسي المصري بصقر غير متوقع؟
في العام التالي 2008، فقد الحية نجله حمزة بصاروخ إسرائيلي في أثناء محاولة لاغتياله، ولاحقاً فقد زوجته وثلاثة أبناء في محاولة تالية عام 2014.
ثم تدور الأيام ويعلن خليل الحية نفسه، لا غيره، في مطلع أغسطس/ آب الماضي أن حركته توصلت إلى تفاهمات مع محمد دحلان، العدو اللدود قائد الأجهزة الأمنية التي سجلت ما كشفه الحية قبل سنوات. وللمفارقة كان أبرز التفاهمات إنشاء الصندوق الوطني للمصالحة المجتمعية، وهو ما تم لاحقاً بالفعل، وبدأ تسلم العائلات بالفعل للدية التي تقدر بخمسين ألف دولار للقتيل.
في الواقع، هذا التاريخ الشخصي هو تحديداً ما أهّل الحية للعب هذا الدور. لا أحد يمكنه المزايدة عليه في العداء لدحلان والتشدّد ضده، أو في التضحية لأجل الوطن.
ينطبق الوضع نفسه على التشكيلة الحالية من قيادة "حماس"، بدءاً من القائد العام يحيي السنوار، الذي أمضى 23 عاماً متواصلة أسيرا في السجون الإسرائيلية حتى خرج في صفقة تبادل شاليط عام 2011، وفوراً تم انتخابه ليكون مشرفاً على كتائب القسام، وبالمثل مساعده الأقرب صالح العاروري الذي شارك في تأسيس كتائب القسام في الضفة الغربية في 1991 و1992، وسُجن 18 عاما أسيرا لدى الاحتلال عاماً كاملة، ومعروف بعلاقاته الوثيقة بالإيرانيين.
حين انتُخب السنوار، كُتبت أطنان من التحليلات عن دلالة اختيار هذا الرجل العسكري القوي في رئاسة الحركة مكاناً لإسماعيل هنية، قيل إن هذا يعني أن الحركة ستصبح أكثر تشدداً ضد مصر و"فتح"، وستدفع إلى إنهاء الهدنة مع إسرائيل، والدخول في حرب قريبة، لكن ما حدث بالفعل هو عكس كل المتوقع.
فقط السنوار ورجاله هم المؤهلون، لا غيرهم، لوضع أيديهم في أيدي أعدائهم السابقين، الأيدي نفسها التي طالما حملت السلاح.
يتكرّر الموقف نفسه في تجارب دولية عديدة. كان نيلسون مانديلا مشاركاً في تأسيس الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، تنظيم "رمح الأمة"، وفي مرافعته بعد القبض عليه دافع عن حق قومه في القتال لأجل حقوقهم، وبعدها بقي في السجن 27 عاماً.
لهذا، كان هذا الرجل، لا غيره، هو من يمكنه اتخاذ اجراءات مصالحة وطنية متساهلة جداً على أي مقياس ثأري، وهو من سمح بمنظومة "الحقيقة والمصالحة"، وسمح بإفلات الفصل العنصري من العقاب، ولم يتخذ أية إجراءات انتقامية من الماضي، فلا مصادرات لمزارع أو أراضي المنحدرين من الأعراق الأوروبية.
وبالمثل كانت قصة مصالحة الجيش الجمهوري الأيرلندي مع بريطانيا، كان لابد أن يتولاها جيري أدامز، أحد الأربعة الكبار في المنظمة، والذي تم اعتقاله في السبعينات، وصاحب السجل الناصع في مقاومة لندن بكل الصور.
ليس تفسير تلك الظاهرة صعباً، فإبرام أي اتفاق سياسي وإلزام القواعد به يتطلب قدراً من النفوذ، ومصدره أولا صاحب شرعية تنظيمية، أي في موضعٍ يسمح له لأن يلقي أوامر تحرك آلاف الأعضاء، وثانياً يجب أن يكون صاحب شرعية سياسية معنوية، تمكنه من الترفع فوق المزايدات.
وبالإضافة إلى ذلك، يدرك "الصقور" الحقيقيون موازين القوى، ويتصرفون بناء عليها، حتى لو بتراجع مؤقت لالتقاط الأنفاس لا أكثر. وبهذا المنطق، يروج في أوساط "الإخوان المسلمين" أن فض الاعتصام في ميدان النهضة تم بدون خسائر فادحة، على غير ما وقع في فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، لأن "النهضة" كان تحت إدارة فصائل إسلامية أكثر تشدّداً كالجهاد وغيرها، وتصدى هؤلاء بحسم لقوة توجهت إليهم من قسم الشرطة التابعين له، لكنهم بمجرد رؤية جرافات الجيش انسحبوا فوراً.
عادة ما يدمر الصقور محاولات العقل أو حلول الوسط، لكن ليس ثمة من هو أفضل منهم لو اقتنعوا أو فُرض عليهم الاقتناع.
هل يمكن أن يفاجأ الوسط السياسي المصري بصقر غير متوقع؟