يبدو أن المزيد من الصحف الورقيّة العربيّة مهدّدة بالتوقّف، بسبب الضائقة الماليّة، وعدم احتمال كلفة النشر والرواتب والمصاريف الأخرى. وعندما نتحدث عن صحف بعراقة النهار والسفير، فإن الصفحة التي تطوى، تذكر بالصراع القديم في المنطقة، وأذرعه الإعلامية المرافقة؛ فقد كانت مرحلة الصراع الناصري – السعودي، هي الفترة الذهبية للسجال الإعلامي العربي، وانقسامه لمعسكرين، تقدمي – رجعي، جمهوري – ملكي. مناوئ للغرب وحليف للسوفييت والعكس.
وكانت الغلبة للخطاب الناصري، فإذاعة "صوت العرب"، مثلاً، هيمنت على المجال العام العربي، وعجز خصوم عبد الناصر عن منافستها.
وقد كانت تلك الغلبة الإعلامية، مدعمة بريادة فنية مصرية، فأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، والسينما والدراما والمسرح، كانوا فوق أي منافسة عربية جدية، وكانت القاهرة تسعى لاحتكار الزعامة السياسية بعد الفنية.
وفي مرحلة ما بعد الناصرية، تخلى الوريث الشرعي أنور السادات عنها، ونأى بنفسه عن السياق التنافسي العربي القديم بأكمله، فكان يعتبر نفسه طائراً خارج السرب، وكانت عينه على النجومية العالمية لا العربية، ليتحقق له ذلك بعد زيارة القدس وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، فطُوّب كصانع سلام عالمي، ونُبذ على الصعيد العربي. وتقدم كثر بعده لتقاسم التركة المعنوية الناصرية، منهم ياسر عرفات، ومعمر القذافي وحافظ الأسد، وصدام حسين.. عجز هؤلاء عن وراثة الدور، لكنهم نجحوا في وراثة بعض الشعارات، ومعها رموز ووسائل إعلامية وجدت نفسها فجأة يتيمة بلا معيل. وساهمت الوفرة المادية، مع ارتفاع سعر النفط، وما تطلبته مراكز القوى العربية الجديدة من منابر، في تأسيس صحف ودوريات كانت منها جريدة السفير.
ومع تعدد الهوى الإعلامي للتركة التقدمية، والخلافات الحادة بين الورثة أنفسهم، ورثت إيران ما تبقى مع رحيل رموز ما بعد عبد الناصر، وبدل التقدمية مقابل الرجعية، أضحى العنوان الجديد سنة مقابل شيعة. وإذ احتكرت إيران إعلام ما يعرف بمحور الممانعة، تقدمت قطر لمنافسة السعودية في المقلب الآخر. وقد زاد حمّى التنافس، دخول المحطات الفضائيّة على الخط. فحتى أوائل التسعينيات كان التلفزيون محتكَراً للمحطات الوطنية ذات الخطاب الرتيب المنفّر، يستثنى من ذلك فقط لبنان الحرب الأهلية، ومع حرب تحرير الكويت وسطوع نجم محطة "سي ان ان" الأميركية، قامت قطر بإطلاق قناة الجزيرة، لتصبح كابوس الأنظمة العربية، وليفتح نجاحها الباب أمام عشرات ومئات الفضائيات العربية، التي حاول بعضها استنساخ تجربة الجزيرة، فيما اعتمد بعضها الآخر الترفيه بديلاً عن السياسة، واستخدم البعض التحريض الطائفي المباشر.
ومع قلّة المحطات غير الممولة سياسياً، تراخى مفهوم الإدارة والربح الإعلاني كمصدر للاستمرار، فخدمة الخط السياسي هو ما يضمن المال، وحتى المحطات الترفيهية كانت ضمن سلّة التمويل، وإن حاول بعضها إيجاد مداخيل إضافية عبر الشراكة مع شركات الهاتف المحمول، إن عبر الرسائل النصية التي تضعها تلك القنوات أسفل الشاشة، أو عبر التصويت لبرامج المسابقات الفنية، التي تحولت لأكثر البرامج متابعة. فمن "سوبر ستار" إلى "ستار أكاديمي"، و"إكس فاكتور"، و"ذا فويس".. ظهرت مواهب أحبَّها الناس وتفاعلوا معها. وكان ملفتاً، أنَّه في الوقت الذي يجري الحديث فيه عن فشل الدول الوطنيّة، كان جمهور كل دولة يتعلق بمتسابق بلده، ويصوت له بكثافة، بل وقد يعزو خروج مرشحه من المنافسة إلى نظرية المؤامرة، ويجترح مظلوميّة يتعرض لها بلده دوماً من الأشقاء! ومع غياب صندوق الاقتراع عن الحقل السياسي العربي، أضحى "الصوت" عبر الهاتف المحمول، هو البديل الفني لهذا الصندوق، وكما شعار جريدة السفير، صار "صوت الذين لاصوت لهم".
وكانت الغلبة للخطاب الناصري، فإذاعة "صوت العرب"، مثلاً، هيمنت على المجال العام العربي، وعجز خصوم عبد الناصر عن منافستها.
وقد كانت تلك الغلبة الإعلامية، مدعمة بريادة فنية مصرية، فأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، والسينما والدراما والمسرح، كانوا فوق أي منافسة عربية جدية، وكانت القاهرة تسعى لاحتكار الزعامة السياسية بعد الفنية.
وفي مرحلة ما بعد الناصرية، تخلى الوريث الشرعي أنور السادات عنها، ونأى بنفسه عن السياق التنافسي العربي القديم بأكمله، فكان يعتبر نفسه طائراً خارج السرب، وكانت عينه على النجومية العالمية لا العربية، ليتحقق له ذلك بعد زيارة القدس وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، فطُوّب كصانع سلام عالمي، ونُبذ على الصعيد العربي. وتقدم كثر بعده لتقاسم التركة المعنوية الناصرية، منهم ياسر عرفات، ومعمر القذافي وحافظ الأسد، وصدام حسين.. عجز هؤلاء عن وراثة الدور، لكنهم نجحوا في وراثة بعض الشعارات، ومعها رموز ووسائل إعلامية وجدت نفسها فجأة يتيمة بلا معيل. وساهمت الوفرة المادية، مع ارتفاع سعر النفط، وما تطلبته مراكز القوى العربية الجديدة من منابر، في تأسيس صحف ودوريات كانت منها جريدة السفير.
ومع تعدد الهوى الإعلامي للتركة التقدمية، والخلافات الحادة بين الورثة أنفسهم، ورثت إيران ما تبقى مع رحيل رموز ما بعد عبد الناصر، وبدل التقدمية مقابل الرجعية، أضحى العنوان الجديد سنة مقابل شيعة. وإذ احتكرت إيران إعلام ما يعرف بمحور الممانعة، تقدمت قطر لمنافسة السعودية في المقلب الآخر. وقد زاد حمّى التنافس، دخول المحطات الفضائيّة على الخط. فحتى أوائل التسعينيات كان التلفزيون محتكَراً للمحطات الوطنية ذات الخطاب الرتيب المنفّر، يستثنى من ذلك فقط لبنان الحرب الأهلية، ومع حرب تحرير الكويت وسطوع نجم محطة "سي ان ان" الأميركية، قامت قطر بإطلاق قناة الجزيرة، لتصبح كابوس الأنظمة العربية، وليفتح نجاحها الباب أمام عشرات ومئات الفضائيات العربية، التي حاول بعضها استنساخ تجربة الجزيرة، فيما اعتمد بعضها الآخر الترفيه بديلاً عن السياسة، واستخدم البعض التحريض الطائفي المباشر.
ومع قلّة المحطات غير الممولة سياسياً، تراخى مفهوم الإدارة والربح الإعلاني كمصدر للاستمرار، فخدمة الخط السياسي هو ما يضمن المال، وحتى المحطات الترفيهية كانت ضمن سلّة التمويل، وإن حاول بعضها إيجاد مداخيل إضافية عبر الشراكة مع شركات الهاتف المحمول، إن عبر الرسائل النصية التي تضعها تلك القنوات أسفل الشاشة، أو عبر التصويت لبرامج المسابقات الفنية، التي تحولت لأكثر البرامج متابعة. فمن "سوبر ستار" إلى "ستار أكاديمي"، و"إكس فاكتور"، و"ذا فويس".. ظهرت مواهب أحبَّها الناس وتفاعلوا معها. وكان ملفتاً، أنَّه في الوقت الذي يجري الحديث فيه عن فشل الدول الوطنيّة، كان جمهور كل دولة يتعلق بمتسابق بلده، ويصوت له بكثافة، بل وقد يعزو خروج مرشحه من المنافسة إلى نظرية المؤامرة، ويجترح مظلوميّة يتعرض لها بلده دوماً من الأشقاء! ومع غياب صندوق الاقتراع عن الحقل السياسي العربي، أضحى "الصوت" عبر الهاتف المحمول، هو البديل الفني لهذا الصندوق، وكما شعار جريدة السفير، صار "صوت الذين لاصوت لهم".