مهما مرت الأيام، لا تفارق ذهني صورة الرجل اليوناني العجوز الذي أسند ظهره إلى مبنى البنك، وغطى وجهه بيده، وأجهش بالبكاء في يوم من أيام صيف 2015. حكت لنا وكالات الأنباء بعد ذلك قصته، باعتباره موظفا محالا إلى التقاعد، تدهورت ظروفه المعيشية بعد خطط الإصلاح الاقتصادي والتقشف المالي التي فرضها المقرضون على اليونان، للمساعدة في خروجها من أزمتها المالية.
الأحداث توالت بصورة سريعة في اليونان، منذ بداية الأزمة المالية العالمية في 2008، وربما قبل ذلك قليلاً، فالحصول على حزمة إنقاذ أُولَى من صندوق النقد الدولي في 2010، ثم الحصول على حزمة إنقاذ ثانية في 2012 من صندوق النقد الدولي، تحمل أغلبها الاتحاد الأوروبي، ثم موافقة البرلمان اليوناني على الإجراءات التقشفية في 2013، ثم التخلف عن سداد دفعة مستحقة لصندوق النقد في منتصف 2015، فالرضوخ لإجراءات تقشفية جديدة للحصول على حزمة إنقاذ ثالثة من الاتحاد الأوروبي. أغلقت البنوك اليونانية وقتها أبوابها، وسمحت لكل مواطن بسحب 60 يورو فقط يومياً (المعادل لـ67 دولارا). فأحس العجوز بالمهانة الشخصية والوطنية، وأجهش بالبكاء.
لستُ ممن يرون صندوق النقد الدولي شراً على طول الخط، ولا أعتقد أنه الشيطان الأكبر في هذا العالم كما يراه البعض، لكني أدرك جيداً، كما يعلن الصندوق عن نفسه دائماً، أنه يعمل على تعزيز التعاون النقدي العالمي وتأمين الاستقرار المالي وتسهيل التجارة الدولية. يساعد الحكومات الفاشلة اقتصادياً لتتجنب الانهيار الاقتصادي، فيقرضها الأموال، ويفرض عليها سياسات معينة، تضمن له إلى حدٍ كبير استرداد أمواله، وله كل الحق في ذلك طبعاً. يعمل على زيادة نسب التوظيف، وتحقيق النمو الاقتصادي للدول، والقضاء على الفقر، إلا أنه في سبيل تحقيق ذلك، ومن واقع تجارب سابقة مع عدة دول، فشل في إقناع البعض بأنه قادرٌ على حماية الفقراء.
تجاهل الفقراء
المشكلة الكبرى في تقييم ما يقدمه الصندوق من فائدة للدول المقترضة، تكمن في أساليب قياس بعض المؤشرات الاقتصادية التي يهتم بها الصندوق، ويأتي على رأسها معدلات النمو الاقتصادي. فالصندوق يسعد مثلاً بمعدلات النمو المرتفعة التي تحققها بعض البلدان التي تتبع نصائحه، كما يسعد بزيادة معدلات التوظيف فيها، لكنه لا يعنيه كيفية توزيع ذلك النمو بين الطبقات والفئات المختلفة، كما لا يشغل باله عادةً بمعدلات الأجور والمميزات التي يحصل عليها العاملون في كل دولة.
ومن أجل ذلك، وربما لرفع الحرج، يحاول الصندوق دائماً تبرئة ساحته من تلك الاتهامات، فاعتاد أن يُضَمِّن تقريره السنوي كل عام بعض العبارات التي تحاول توجيه الحكومات إلى توخي الحذر عند تطبيق إجراءات الإصلاح الاقتصادي، حتى لا تؤدي إلى نتائج غير محسوبة.
وفي تقريره السنوي عن سنة 2017 الصادر قبل عدة أيام، وعند الحديث عن إصلاح تسعير الطاقة في العالم العربي، وهي عبارة لطيفة مهذبة، يُقْصد بها رفع دعم الوقود والكهرباء وغيرها من مصادر الطاقة، جاءت العبارة التالية بمنتهى الوضوح: "ولكي ينجح الإصلاح، ينبغي أن يكون واسع النطاق وشاملا وأن ينفذ بالتدريج، وأن يجرد من الاعتبارات السياسية. ويجب إطلاع الجمهور العام على هذا الإصلاح. وينبغي تعويض الفقراء والفئات الضعيفة الذين سيواجهون أعباء من ارتفاع أسعار الطاقة".
وللحقيقة لم أجد أثراً لتلك الكلمات في أي من بلداننا العربية التي شرعت في إصلاح تسعير الطاقة، إن جاز التعبير.
الحالة السعودية
وللاستدلال على ذلك يمكن النظر إلى حالتين واضحتين: الأولى تخص المملكة العربية السعودية، وقد ظهر منذ أيام أيضاً تقرير من الصندوق- نفسه- يحث المملكة على عدم التسرع في تطبيق الإجراءات التقشفية، ومنها إصلاح أسعار الطاقة وتقليل الإنفاق الحكومي على الأجور، نظراً لما ظهر من مؤشرات سلبية.
فالسعودية لم تراع تأثير الإجراءات الإصلاحية على الطبقات المختلفة، ولم تعوض الفئات الفقيرة والضعيفة عما نويت رفعه من دعم. الخطوة الأولى أتت قبل عام، عندما رفعت الحكومة سعر مياه الشرب في المملكة، وكانت النتيجة وجود سخط عام أدى بالحكومة للعدول عن رفع الأسعار، والعودة إلى الأسعار القديمة، مع إعفاء متخذ القرار، وكأنه قد اتخذه برؤية فردية، لا كجزء من سياسة عامة تنوي الحكومة اتباعها بناء على توصية الصندوق.
وكان من ضمن المؤشرات السيئة أيضاً في التقرير الصادر مؤخراً، وصول معدل النمو إلى صفر بالمائة، ووصول نسبة البطالة بين الشباب السعودي في قوة العمل إلى 40%. وهو ما يعني أنه لو لم تدرك الحكومة خطورة تجاهل الأبعاد الاجتماعية المصاحبة لخطوات الإصلاح الاقتصادي، فربما تكون العواقب خارج تقدير متخذي القرار تماماً، وفي وقت أقرب مما يتوقع الجميع.
الحالة المصرية
وفي مصر، لم يخبر أحد الشعب المصري بما ينوون عمله، ولم يشركوا أحداً في قراراتهم. لم يعوضوا الفئات الضعيفة والفقيرة، وألغوا نسبة كبيرة من الدعم الموجه للوقود والكهرباء والمياه والغاز ورغيف الخبز، ولم توجه المبالغ التي تم توفيرها من الدعم لتحسين الخدمات الصحية والتعليمية.
ومن ناحية أخرى، فقد تم تعويم الجنيه المصري، ففقد أكثر من 60% من قيمته، ولم يتم تعويض موظفي الحكومة وأصحاب المعاشات. وفرضت الضرائب تحت مسميات مختلفة، وزادت الجمارك، فتقهقرت الطبقة المتوسطة لتعيش على حد الكفاف، ولا تسأل عما حدث للطبقات الفقيرة.
في 2012، كافح الشعب الثائر في مصر بعد أن فقد المئاتُ أرواحهم، من أجل الحصول على مكسب معنوي، لم يكن بأي حال يبرر الأرواح التي أزهقت. فأقرت الحكومة مبلغ 700 جنيه كحد أدنى للدخل الشهري، تمت زيادته في مرحلة لاحقة ليصبح 1200 جنيه، وكان الدولار وقتها يعادل 6.50 جنيهات، أي أن الحد الأدنى كان يعادل حوالي 185 دولارا.
بعد فترة ليست طويلة، عام الجنيه، فغرق، وانخفضت قيمته مقابل الدولار، حتى أصبح الدولار يساوي حوالي 19 جنيها. أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما كان عليه وقت تحديد الحد الأدنى للدخل الشهري. لم يراع المشرّع القوة الشرائية للحد الذي تم إقراره، في بلد يستورد أغلب ما يأكله، ويلبسه، ويركبه، ولم يأخذ في الاعتبار نسبة تضخم سنوية لم تكن تقل وقتها عن 10%، ارتفعت بعد التعويم لتصل إلى 35%، وتعامل مع الأمر كأن ما يحدث للمواطن المصري يحدث في دولة أخرى، اسمها بنما أو بنها ربما.
تساقط الثمار
في تجارب سابقة، وتحديداً خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، دفع الصندوق والحكومات المعنية بالإصلاح الاقتصادي بنظرية تساقط الثمار، وادعيا أن تحقيق معدلات نمو مرتفعة، مع إجراء إصلاحات في الدعم، كفيلان بتحقيق استفادة لكل الفئات، وعلى رأسها الفئات الفقيرة والضعيفة.
لم تنجح النظرية، وتحققت معدلات النمو المرتفعة في مصر، لكن ازداد الفقير فقراً، وراكم الغني الثورات، وكان السبب الأساسي هو عدم إصلاح هيكل الأجور، خاصة في القطاع العام، وعدم تعويض الطبقات الفقيرة عما تم إلغاؤه من دعم، وكأن الحكومة كانت تقول للمواطنين وقتها "اتصرّفوا"، ثم توالت بعدها التطورات حتى تمت الإطاحة بالحكومة في 2011، بعد اشتعال ثورة طالبت في أول لحظاتها بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
في حوار مع صديق يشغل منصب مدير تنفيذي بصندوق النقد الدولي قبل أيام، قرأت له الفقرة التي وردت في تقرير الصندوق السنوي وأشرت إليها آنفاً، وسألته إذا ما كان الصندوق لديه آليات تضمن له متابعة التزام الدول المعنية بإجراءات حماية الفقراء التي يشدد عليها الصندوق، أو بإطلاع شعوبهم على خطط رفع الدعم ومواعيده، أو بتعويض الفقراء عما يتحملونه من نفقات إصلاح أسعار الطاقة وإلغاء الدعم، فكانت الإجابة الواضحة "لا، هي ليست من مهام الصندوق".
ثورات الجياع
وبغض النظر عن أخلاقية هذا الموقف من الصندوق، فبالتأكيد حكومات الدول هي التي يقع عليها هذا العبء، وهي الملزمة بتوفير حياة كريمة للمواطنين، تضمن لهم في حدها الأدنى مستويات مقبولة من الخدمات الصحية والتعليمية، وإلا فإنها تفقد شرعيتها، مهما كانت الطريقة التي وصلت بها تلك الحكومات إلى السلطة، وأياً كان نوع التفويض الذي حصلت عليه في فترات سابقة.
صندوق النقد الدولي يدرك جيداً ما لم تستطع الحكومات العربية استيعابه، ويعرف جيداً أن تزايد عدم المساواة يفرض مخاطر أمام قدرة النمو الاقتصادي على الاستمرار، وكثيراً ما يؤكد للحكومات أن تصميم السياسات الحكومية يؤثر على توزيع الدخل، وأن في إمكان الحكومة بالتأكيد المساعدة في معالجة أية اختلالات في توزيع ثمار النمو وفي توزيع الدخول بين الطبقات المختلفة، ولذلك فقد أصبح مؤخراً يدعو الحكومات إلى العمل على أن يكون النمو احتوائياً، أي أنه لابد أن يمتد ليشمل الطبقات الضعيفة، ويوفر لها الحماية التامة من إجراءات الإصلاح المطبقة، وإلا فإن تلك الحكومات تكون بصدد كتابة نهايتها بأيديها.
يحذر الكثيرون من ثورات الجياع المقبلة في بلداننا العربية، لكن قبل أن تأتي هذه الثورات، يرفض الضمير الإنساني مشاهد التفاوت في الدخول الموجودة في كل أنحاء العالم، ولكنها تطل بوجهها القبيح بصورة فجة في بلادنا العربية، ويضاعف من قتامة الصورة حرمان الطبقات الضعيفة من كل الحقوق الآدمية الموجودة في العالم المتحضر.
سوء توزيع الدخول موجود بالفعل في كل البلاد، لكن الحكومات في الدول المتقدمة تُحَصِّن نفسها بتوفير حد أدنى من الغذاء والخدمات التعليمية والصحية والصرف الصحي للفقراء، يفوق ربما ما يحصل عليه أكثر من ثمانين بالمائة من شعوبنا.
وقديماً قال أبو ذر الغفاري "عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناسِ شاهراً سيفه". فهل يتعظ أولو الألباب؟