عاشت دول ثورات الربيع العربي حلمًا كان أقرب إلى الواقع، حيث استهدف الشباب، بعد نجاح الثورات في الأيام الأولى، تكسير القيود والحواجز التي تقسم المجتمعات العربية إلى طبقات، تظفر فيها طبقة متناهية الصغر باحتكار السلطة والثروة، وتمنع فيها غالبية شرائح المجتمعات من حقوقها الطبيعية في المشاركة المجتمعية، والحصول على الوظائف في مختلف أروقة الدولة.
لكن مع صعود الثورات المضادة، وهدم حلم ثورات الربيع، أصبحت المجتمعات العربية، تعاني من فقدان الكثير من الحقوق الأساسية للعيش الكريم، بل أصبح مجرد الحياة حلمًا في بلدان مثل ليبيا، سورية، العراق، اليمن، وتعاني شعوب باقي الدول العربية من مرارة البطالة والفقر، واستحالة المشاركة في السلطة، وغياب التقاسم العادل للثروة.
ولا تغيب قضية العدالة الاجتماعية عن الساحة الدولية، حيث تحتفي الأمم المتحدة باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في 20 فبراير من كل عام، بدءًا من عام 2007.
ورحم الله الكاتب والمفكر عبد الرحمن الكواكبي، الذي عبّر عن مضمون قضية العدالة الاجتماعية، بقوله "لا يطلب الفقير معاونة الغني، إنما يرجوه ألا يظلمه، ولا يلتمس منه الرحمة، إنما يلتمس العدالة، لا يؤمل منه الإنصاف، إنما يسأله ألا يميته في ميدان مزاحمة الحياة"، فالعدل، والمساوة في الحصول على الفرص، والحق في الحياة الكريمة، أركان رئيسية للعدالة الاجتماعية، سطّرها الكواكبي في مطلع القرن العشرين، لتتوافق معها بعد ذلك الأدبيات والوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
قد يكون من المعتاد في احتفائية اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، كما هو مدون على صفحة موقع الأمم المتحدة، ذكر الأرقام الخاصة بالعاطلين، أو الذين يعملون لبعض الوقت، أو ظروف العمل غير اللائق، وغيرها من قضايا البطالة والفقر، لكن قضية العدالة الاجتماعية في المنطقة العربية أكبر من ذلك.
بسبب أن ما وراء الأرقام الخاصة بالبطالة والعمل والفقر في المنطقة العربية، أكبر من حالة الوضع الطبيعي، فالمنطقة العربية تعيش أجواء غير طبيعية في كل شيء، السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، ولم يعد الإنسان محل اهتمام الحكومات، بل همّ الحكومات هو المزيد من الديكتاتورية والاستبداد، وإهدار كافة حقوق الإنسان. فالعيش خارج النطاق الجغرافي للدول العربية، أصبح حلم شرائح كبيرة من سكانها، بل واقع تسعى إليه شرائح ليست بالقليلة من المجتمعات العربية.
ويكفي أن نشير إلى أن عدد المهاجرين في أكبر دولة عربية وهي مصر بلغ 10.4 مليون مهاجر حسب بيانات وزارة الهجرة المصرية لعام 2018. أي قرابة 10% من سكانها اضطروا للهجرة.
برامج ورقية
بعض من النظم العربية يصدر، بشكل دوري وإجرائي، برامج لخطط سنوية أو خمسية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تستهدف الفقر والبطالة، لكن الواقع يعكس أداءً مختلفًا، فالتقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2019، يبيّن أن البطالة في المنطقة العربية من أعلى معدلات البطالة في العالم، إذ بلغت في المتوسط 10%، وهو ما يعني وصول معدل البطالة في المنطقة إلى ضعفي المتوسط العالمي.
ومما يجب أخذه في الاعتبار عند النظر إلى إحصاءات البطالة في الدول العربية، نجد أنه يتم إعدادها حسب مؤشر غير عادل، حيث يعتبر كل من يعمل ساعة في الأسبوع من العاملين، وهذا المؤشر إن كان يتناسب مع البلدان الأوروبية وأميركا، فإنه لا يتناسب تمامًا مع أوضاع الدول العربية، بسبب غياب برامج الحماية الاجتماعية في الدول العربية.
لكن ماذا أعدت الحكومات العربية تجاه قضية البطالة، بتداعياتها السلبية اقتصاديًا واجتماعيًا؟
الإجابة شديدة السلبية، عبر معدلات النمو الاقتصادي المتواضعة، في ظل تنامي أعداد الأفراد في شريحة قوة العمل، حيث تصل شريحة من هم في سن العمل (15- 65 عامًا) في المنطقة العربية إلى نحو 62%، في الوقت الذي تنحدر فيه المنطقة إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، واستمرار الحروب الأهلية في 3 دول، واستمرار مشكلات النزوح والهجرة الخارجية لشعوب هذه الدول، وتهديم البنية الأساسية، وارتفاع أعداد القتلى والجرحى.
أما الفقر، فمن الطبيعي أن ترتفع معدلاته في المنطقة العربية، بسبب الظروف السياسية والأمنية، فضلًا عن فقر برامج التنمية، وتركيزها على الأنشطة الريعية، من دون اكتراث لغياب وجود قاعدة إنتاجية، في قطاعات مهمة مثل الزراعة والصناعة، مما أدى إلى مزيد من التبعية للخارج، خاصة في أهم السلع الاستراتيجية وهي الغذاء، حيث قدرت مؤخرًا الفجوة الغذائية في المنطقة العربية بـ 33.6 مليار دولار في عام 2017.
وفي دراسة لمنظمة الإسكوا، تبيّن أن نحو 41% في المتوسط من الأسر العربية، التي شملتها الدراسة، تعاني من الفقر متعدد الأبعاد، أي الفقر في مجالات (الدخل، التعليم، الصحة، البنية الأساسية، الأمن)، والأخطر ما أشارت إليه الدراسة من حالة الفقر متعدد الأبعاد بين الشباب العربي دون سن 18 سنة، التي تبلغ نسبتها 44%، وأن الفقر المدقع بين هذه الشريحة بلغ 25%.
حقوق مهدرة
تُعد أسواق العمل العربية، من أكثر الأسواق إهدارًا لحقوق العمال، حيث يغلب عليها سمة سوق العمل غير المنظم، ووجود تجاوزات كثيرة تتعلق بغياب اعتبارات الأمن الصناعي، كذلك افتقاد مؤسسات العمل وجود برامج للتدريب تساعد على رفع كفاءة العمل العربي.
وفي تقرير حديث لمنظمة العمل الدولية، تبيّن أنه في عام 2019 تم استيعاب عدد من الشباب غير المتعلمين وغير المتدربين مهنيًا في سوق العمل العربية (باستثناء دول الخليج)، وأن نسبتهم بلغت نحو 40% ممن التحقوا بسوق العمل في هذا العام.
ومن التشوهات التي تعاني منها أسواق العمل العربية، بالنسبة للشباب، أظهرت إحصاءات منظمة العمل الدولية أن ما يزيد عن 50% من الشابات العربيات، غير متعلمات وغير عاملات وغير متدربات.
وفي الغالب تشهد الدول العربية خللًا في معادلة علاقة العمل، حيث لا توجد نقابات عمالية قوية في الدول العربية، وحتى الدول التي لديها نقابات عمالية، يتم تدجينها وصناعتها على عين السلطات الديكتاتورية، وغير الديمقراطية. وينعكس ذلك على حقوق العمال العرب في مناحٍ شتى.
تصور قاصر
في إطار الاحتفائية العالمية بالعدالة الاجتماعية، سنجد الإعلام العربي يروّج لمفهوم ناقص حول العدالة الاجتماعية، بقصرها على الحديث عن بعض برامج الرعاية الاجتماعية على أنها العدالة الاجتماعية، أو الحديث عن بعض القضايا العمالية، خاصة الزيادات المحدودة وغير الحقيقية في دخول وأجور العمال.
العدالة الاجتماعية في تعريفها العام هي "التساوي في الحصول على الفرص، والتمكين من ذلك، واستدامة ذلك الأمر على الأجل الطويل"، إذاً التساوي في الفرص ليس قاصرًا على سوق العمل فقط، بل في كل جوانب الحياة داخل المجتمع، ولا يكون لفئة من دون فئة، ولكن تُمكن منه كل الفئات، ولا يكون لمرة واحدة أو لفترة محدودة، بل يمتد ليشمل الأجل الطويل.
بقي أن نشير إلى رسالة مهمة، وهي أن العدالة الاجتماعية ليس لها نطاق جغرافي محدود، لكنها قيمة إنسانية، وعليه يجب على الغرب وأميركا وروسيا، أن ترفع يدها عن المنطقة العربية، وتوقف هذه الحرب المجنونة التي تُعمل آلة القتل في الشعوب العربية، وأن تتوقف تلك الدول عن دعم الديكتاتوريات العربية، ويومها سيكون أمام الشعوب العربية فرصة كبيرة للعدالة الاجتماعية.