تتسع تداعيات الفشل باقتحام مدينة تكريت شمالي العراق، بشكل غير مسبوق أو متوقع، وأدت خلال الساعات الماضية إلى انشقاق كبير، هو الأول من نوعه بين مليشيات "الحشد الشعبي"، تسبب بانسحاب معظمها من محيط المدينة المحاصرة، اعتراضاً على مشاركة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بقصف المدينة، وتضامناً مع انسحاب قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، و240 عنصراً بالحرس الثوري مع كامل عدتهم العسكرية.
يأتي هذا في الوقت الذي عزز فيه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أمنه الشخصي، خوفاً من انقلاب المليشيات الغاضبة عليه، بعد الكشف عن طلب رسمي قدّمه العبادي لغرفة التحالف الدولي في بغداد، لتقديم الدعم اللازم لاقتحام المدينة بالتزامن مع قيام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، بالاجتماع مع قيادات المليشيات المنسحبة وتأليبها على العبادي، وفقاً لمعلومات حصلت عليها "العربي الجديد".
وكشف مسؤول عسكري عراقي رفيع في وزارة الدفاع العراقية لـ"العربي الجديد"، أن غالبية المليشيات انسحبت من تكريت وتركت مواقعها، وأبرزها مليشيات "بدر" و"العصائب" و"حزب الله" و"سرايا الخراساني"، و"لواء أبو الفضل العباس" و"الإمام علي" و"الحجة الغائب" و"سرايا كربلاء"، و"قوات شهيد الطف" ومليشيات أخرى معها متوسطة الحجم والقوة. جميع تلك المليشيات تابعة للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وتُقلّده فكرياً وعقائدياً، كما تتلقى إشرافاً مباشراً منه، على عكس المليشيات الأخرى التي بقيت في أرض المعركة، وهي قليلة وتدين بالولاء لمرجعية علي السيستاني ومقتدى الصدر، أبرزها مليشيا "السلام" و"لواء اليوم الموعود" و"كتائب الغضب الإسلامي".
وأوضح المسؤول العراقي أن عديد القوات المتواجدة قرب تكريت حالياً، لا يتجاوز 11 ألف مقاتل، بعد أن كانوا قرابة 34 ألفاً قبل يومين، مشيراً إلى أنه من الأحد عشر ألف عنصر، يوجد 4300 عسكري نظامي و2600 من الشرطة الاتحادية، و500 من جهاز مكافحة الإرهاب، و800 من لواء التدخل السريع الخاص، وفوج من 200 مقاتل تلقوا تدريبات سريعة على يد الأميركيين، فضلاً عن المئات من عناصر المليشيات والعشرات من أبناء العشائر.
ولفت المسؤول العراقي، الذي يشغل منصباً رفيعاً في هيئة رئاسة أركان الجيش، إلى أن المليشيات المنسحبة أنذرت العبادي بوجوب سحب طلبه للأميركيين وأن الدعم الإيراني كافٍ، إلا أن العبادي رفض ذلك وأبلغ وزراء مقربين من تلك المليشيات مضيه بطلبه، وهو ما دفع المليشيات التي شكّلت قواتها قرب تكريت قرابة 20 ألف عنصر، للانسحاب والتوجه إلى مناطق قتال أخرى، أبرزها الكرمة (25 كيلومتراً شرق الفلوجة)، والنباعي (30 كيلومتراً شمال بغداد) وقرى جنوب أبو غريب غرب العاصمة.
وأكد المسؤول أن "المعارك مستمرة وعنيفة قرب تكريت وبدعم أميركي متواصل منذ يومين، كما أن العبادي أمر بسحب فوج قتالي من محافظة المثنى جنوب العراق، وتقديمه إلى تكريت لمساندة الجهود هناك"، موضحاً أن المعارك تدور حالياً في محورين رئيسيين، الأول محور العوجة القديمة (جنوب تكريت) والثاني محور "سبايكر" (شمالي تكريت).
وأشار إلى أن تلك القوات حققت تقدّماً على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بفضل الغطاء الأميركي الذي ألقى قنابل كبيرة الحجم لها قدرة تدمير هائلة"، مؤكداً أن "القوات الأميركية تجرب صواريخ جديدة في تكريت لأول مرة، شبيهة بالقنابل الفراغية ذات التأثير الكبير على الاشخاص".
اقرأ أيضاً: قيادي كردي إسلامي: "داعش" والمليشيات العراقية يتنافسان على القتل
خروج سليماني من تكريت مع قواته، تلته عملية انسحاب المليشيات التي لم تكن الخطوة الأخيرة في سلسلة الخلافات الداخلية في البيت الشيعي السياسي أو الديني العراقي، إذ شنّت وسائل إعلام محلية تابعة لأحزاب موالية لإيران، وأخرى لمليشيات نافذة، هجوماً لاذعاً على العبادي الذي وصفته بالضعيف تارة والدمية تارة أخرى، فيما لم يدّخر المالكي الفرصة في تأليب المليشيات والأحزاب على العبادي.
وقال عضو التحالف الوطني العراقي حسين البصري لـ"العربي الجديد"، إن العبادي وجد نفسه في ورطة كبيرة، فهو يحاول التوفيق بين المليشيات وضغوطاتها وبين الولايات المتحدة من جهة، وبين الفشل في تحقيق أي تقدّم على الأرض، على الرغم من مرور ثمانية أشهر على احتلال "داعش" لأكثر من ثلث العراق، والفشل باقتحام تكريت.
وأضاف البصري: "هناك لوبٍ إيراني قوي صعّد من لهجته ضد العبادي، داخل العراق وفي طهران داخل دائرة صنع القرار"، مشيراً إلى أن "المالكي يقود تلك الحملة بشكل لم يعد خافياً على أحد، وهذا يهدد وحدة البيت الشيعي ولا يصب في صالح العراق".
وكشف البصري عن اجتماع مرتقب لقيادات التحالف الشيعي، في منزل رئيس المجلس عمار الحكيم الذي عاد أخيراً إلى بغداد بعد زيارته للأردن بدعوة من الملك عبد الله الثاني، معلناً: "التعويل على هذا الاجتماع المقرر مساء السبت لوضع حد للمشاكل والتوصل إلى صورة حل للأزمة الداخلية الحالية".
ولفت إلى أن "المليشيات الموالية لخامنئي ترفض أي تدخل أميركي في العراق، حتى لو كان جواً، والعبادي يجد ذلك غير منطقي ويرفضه، لكن في الوقت نفسه يطالب المليشيات بالاستمرار في دعمها للجيش، وهي توافق مع شرط خلو السماء والأرض من الأميركيين"، مشيراً إلى "أن أحد تلك المقترحات، أن تساند المليشيات الجيش في مناطق وقرى وبلدات صغيرة لا تحتاج إلى دعم أميركي في تحريرها، بينما تبقى على موقفها من المدن الكبيرة التي لن تتحرر إلا بدعم أميركي، بعدما أثبتت تكريت تواضع القوات الإيرانية أمام نظيرتها الأميركية، وهذا الحل يبدو أنه مقبول من الأطراف".
الخلاف بين مرجعية السيستاني وخامنئي، برز بشكل أوضح خلال خطبة الأول في مدينة كربلاء ظهر الجمعة، إذ دعا المتحدث الرسمي باسم السيستاني، أحمد صافي النجفي، من وصفهم بـ"المجاهدين" إلى دعم الحكومة، التي طالبها بالتنسيق مع "المجاهدين" في التصدي لـ"داعش"، وهو موقف مغاير لموقف خامنئي الذي تجلى بسحب المليشيات التابعة له، فضلاً عن الحرس الثوري وسليماني من تكريت احتجاجاً على التدخل الأميركي.
تلك المشاكل التي وصفت بالحادة والخطيرة القابلة لتداعيات أكبر، دفعت العبادي إلى تعزيز أمنه الشخصي بقوات إضافية، أشرف على تأمينها له وزير دفاعه خالد العبيدي.
وكشف مصدر حكومي عراقي لـ"العربي الجديد"، أن "العبادي رفع عديد أفراد حمايته إلى نحو 400 عنصر أمن، يشرف عليهم ابن خاله وصديق مقرب منه بعدما كان طاقم الحماية لا يتجاوز المائة شخص فقط غالبيتهم من وزارة الداخلية".
وأوضح المصدر أن العبادي بات أكثر قلقاً من انقلاب مليشيوي عليه بدعم من المالكي وأطراف محسوبة على إيران، مما دفعه إلى زيادة عدد أفراد حمايته وتعزيز مقر أمنه الداخلي ومنع دخول سيارات تابعة للمليشيات، إلى المنطقة الخضراء إلا بعد تفتيشها وسحب السلاح منها، وهو إجراء كشف لشركاء العبادي ورطة الرجل بين طرفي الصراع، ومحاولة سحب مشاكل إيران مع واشنطن على الأرض العراقية، وفقاً للمصدر ذاته.
وأظهرت الخلافات الحالية بين العبادي وشركائه، مدى تأثير القرار الإيراني في العراق الذي قد يدفع برئيس الوزراء إلى التخلص من الضغط الأميركي والإيراني، بإعلان الاستقالة في حال ساءت تلك الخلافات، ولم يجد الشركاء بداخل التحالف صيغة تفاهم تحظى بموافقة إيران، وتكون مقبولة للولايات المتحدة.