19 سبتمبر 2022
العراق: واقع انقسام واستحالة تقسيم
تنشغل الصحافة الأميركية، خصوصا منذ بدايات العام الجاري 2015، بالحديث عن تقسيم العراق، وعلى الرغم من انقسام واقع العراقيين، فإن السؤال المهم: هل سيطال التقسيم جغرافية العراق السياسية؟ يبدو واضحا أن ملايين العراقيين، اليوم، فقدوا إيمانهم بوحدة وطنهم، بعد ممارسة أجندة خطيرة، أوجدت الروح العدائية بين العراقيين، خصوصا عندما أشاعوا مصطلح المكونات الثلاثة، السنة والشيعة والأكراد، منذ الاحتلال عام 2003، وثمة عوامل أبعدت الناس عن وطنيتهم وشغلتهم بتوافه الأمور، ونكّل بالهوية العراقية عرقيا وطائفياً، ولقد لعب الملالي ورجال الدين دوراً سيئاً في الانقسام، إذ مشت من ورائهم طوابير المناصرين والمصفقين والمؤيدين لهم، وذاق أهالي السنّة الأمرّين جراء سياسات القمع والإذلال والإقصاء والتهميش والمحاصرات. هؤلاء جميعا فقدوا إيمانهم بوحدة وطنهم، كون بعضهم يقدّم طائفيته ومحلياته وطقوسه على وطنه، أو كون بعضهم الآخر مزقته الحرب، وعصف السياسات المتعصّبة، أو التهميش القاتل.
ربما لا ينكر أحد مشروع جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، في تقسيم العراق منذ سنوات، وهناك قناعات عراقية لدى بعضهم في التقسيم، وإن أي مشروع أميركي، أو غيره، سيغدو سهلا تطبيقه إن كفل التأييد من العراقيين. وأعتقد أن ملايين آخرين من العراقيين لا يؤمنون بتقسيم العراق، ولكن يعيشون واقعا انقسامياً اليوم، إذ تفسخ الواقع بفعل السياسات المهترئة، حتى أصبحت بغداد أو بعض المدن العراقية، مثلاً، محرمة على الموصليين والأنباريين العراقيين الذين يعيشون، اليوم، أهوالاً كنازحين في وطنهم، وقد دعا ذلك أن يصرّح وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، بقوة، وقال: "أندد بسياسة حكومة العبادي التي قادت إلى سقوط الأنبار بأيدي الدواعش الذين يوسّعون استيلاءهم على مناطق استراتيجية، وهم يقتربون من بغداد عند خاصرتها. ظهر جليا أن القوات العراقية لا إرادة لها على القتال". وتمنى مراقبون أن يكمل قوله بعبارة، "من أجل العراق"، وكانت إجابة العبادي عن تلك التصريحات هزيلة جداً.
من الواضح أن مناطق عراقية كبرى في غرب العراق تضم رجالاً أقوياء، وهم مستعدون للدفاع عن ترابهم وأعراضهم وأملاكهم، فضلا عن تحليهم بشجاعة وضراوة منقطعة النظير، كما شهدت لهم ذلك كل الحروب السابقة، لكن الحكومة العراقية حرمتهم من السلاح، لانعدام ثقتها بهم، وقد قادت السياسة الطائفية منذ سنوات إلى ولادة منظمات إسلامية سنية معارضة ومناوئة ومتوحشة، ولم يتحالف مع الحكومة إلا ساسة جدد من السنة، يمثلهم بعض شيوخ عشائر وذوي المصالح الشخصية. فشلت العملية السياسية منذ تطبيقها أيام الاحتلال الأميركي عام 2003، فتبلورت مستويات متنوعة من العنف، وخصوصاً عندما تحالف الشيعة مع الكرد على حساب السنة، ما مهد الطريق إلى التمزق والتشظي، وقاد ذلك إلى تفكك واقع العراق السياسي إلى ثلاثة أقسام مع بقاء العراق على الخارطة فقط. وانتهى الأمر بعد سنوات من حرب أهلية إلى سقوط الموصل الذي قاد إلى أن يذهب نصف العراق الغربي، ليؤسس دولة إسلامية متشددة.
السبب الحقيقي والتاريخي في كل ما حدث ويحدث وما سيحدث، في العراق منذ 2003، يعود إلى سوء السياسة التي اعتمدها المسؤولون العراقيون، وأحزابهم الحاكمة، ممثلة بالمحاصصات الطائفية وقتل النزعة الوطنية والاستهانة بالعراق وتاريخه وجغرافيته، والوقوف ضد نضالات شعبه، وتحجيم أدوار بطولات أبنائه والحرب على المستقلين والمستنيرين والعلمانيين والتقدميين، بعد أن ارتفعت، على حسابهم، مكانة الملالي ورجال الدين الساذجين والموتورين والمنافقين الذين بشروا بدعوات طائفية مقيتة، على حساب الوطن والوطنية، بل وأشاعوا حربا طائفية في البلاد، معتمدين على أضعف الناس وطنية واخلاقاً، وإقصاء كل المستنيرين منهم . وعليه، غدا كل طرف يحارب من أجل طائفته وعشيرته ومدينته وعتباته المقدسة، فلا غبار، إذن، أن يهرب الجنود من أمام عدوهم الزاحف الذي يحمل قضية يحيا ويموت من أجلها، في حين لا أحد على استعداد للقتال من أجل وطن اسمه "العراق". وعليه، انهار الجيش العراقي فعلاً، كون العراق قد انهار أصلا.
يمثل قيام كيان إسلامي سني أصولي في العراق والشام، أولاً، حركة تمرد عنيف جداً ضد حكومتي العراق وسورية، وكلتاهما ترتبطان بالعدوة إيران الإسلامية. وعليه، جاء تأسيسها ليمثل جغرافية وسيطة، كحجاب حاجز بين إيران والبحر المتوسط. وقد تبلورت نشأتها إبّان زمن الثورة السورية، ومن رحمها، بعناصر قيادية عراقية صرفة، كانت لها تجربتها الصعبة مع النظام السياسي الذي ولد في العراق على أيدي الأميركان، فوقفت إيران والعراق معاً ضد الثورة السورية، فكان أن وجد مشروع الدولة الإسلامية السنية، ليمنع امتداد الظاهرة الشيعية نحو الأفق العربي.
بدا واضحا أن التمرد والعمل السري لا يمكنهما أن يزدهرا من دون دعم حاضنات وأوكار وعلاقات سرية بين جماعاتٍ، ترتبط في ما بينها بشبكة واسعة الانتشار من السكان المحليين في كل مدينة عراقية، وهم الذين يشعرون باضطهاد كل من السلطات الشيعية العراقية والفئة العلوية السورية الحاكمة.
جنى كل من الحكومتين العراقيتين، بزعامة نوري المالكي، على كل من الدولة والمجتمع، بحيث تدلنا نتائج استفتاء، جرى بأمانة وحيادية، مع أكثر من مليون عراقي في داخل البلاد على امتداد عشر سنوات مضت، إلى أن الغالبية العظمى من العراقيين السنّة تحتقر "الدولة الإسلامية"، وأن أكثر من 90% من العراقيين في المناطق السنية القحة تعتبرها "منظمة إرهابية"، لكنها منظمة نجحت في الاستفادة من "استياء عميق، يجتاح السكان السنة بفعل ممارسات الحكومة المركزية ضدهم". وقال الاستفتاء إن 91% من السكان (معظمهم من السنة) يقولون، قبل سقوط الموصل، إن العراق يسير في الاتجاه الخاطئ.
بلغ السخط السني درجة كبيرة، جراء إهانات وشتائم وحرب نفسية وحرمانهم من المناصب، ومن حقوق العيش والسكن ومنح فرص عمل وعقود للشيعة. تقول "هيومن رايتس ووتش" "في أعقاب عمليات إنهاء الحصار المفروض على آمرلي، داهمت المليشيات الموالية للحكومة وقوات الأمن القرى السنية والأحياء حول آمرلي، فنهبت ممتلكات المدنيين، وأحرقت المنازل والأعمال التجارية للمقيمين في القرى السنية؛ وجرى استخدام المتفجرات والمعدات الثقيلة، ما أدى إلى تدمير قرى بأكملها". ويذكر ديفيد كيركباتريك من "نيويورك تايمز" النمط نفسه الحاصل في جرف الصخر، عندما تم طرد سكانها السنة البالغ عددهم 70.000"، وجاء في "واشنطن بوست" أن الغالبية العظمى من السنة معارضة لـ "الدولة الإسلامية"، جراء الرعب الذي زرعته، لكن السنة عموما لا يحظون بمحبة الشيعة وثقتهم، وقد تجلى ذلك في عمليات التطهير الطائفي، بحيث كان الآلاف، وما زالوا، يعيشون في العراء والبراري، إذ لم تسمح حكومة بغداد بإدخالهم إلى العاصمة، واحتضانهم والرفق بهم والوقوف معهم في أزمتهم. بات الجميع يمارس سياسة التطهير، حسب البيئات والأقاليم والمحافظات، وحتى مناطق العشائر، بحيث ينسحب كل إلى منطقته وطائفته، ولم تنج أية منطقة في بغداد من هجمات هذه الطائفة أو تلك، هذه بالتفجير والأخرى بالتطهير.
بدأت الحرب الأهلية في العراق عام 2006، والتي تفاقمت خطورتها مع توالي الزمن في عموم العراق، ما دامت مثل هذه العملية السياسية سائدة، وستبقى الحياة تزداد جحيماً من أجل طهي العراقيين على نار هادئة، والتحول من واقع الانقسام إلى مشروع التقسيم. ولكن، سيبقى العراق عصيا على التقسيم.
يشير أغلب المراقبين إلى أن العراق اليوم لم يعد موجوداً. ففي عام 2008، استفدنا من نتائج استفتاء ذكرت أن 80% من الذين شملهم الاستطلاع سجلوا قائلين إن "العراقية قبل كل شيء". أما اليوم، فإن العدد تناقص إلى 40%. وكان الكرد قد عززوا استقلاليتهم، فإن كانت رغبة جامحة لهم في الانفصال عن العراق في دولتهم، فهل باستطاعتهم تكوين كيان سياسي لهم، تمتد جغرافيته بين تركيا وإيران؟ وربما سترقص إيران بانفصال جنوب العراق الغني عن جسده، لكن هدفها الاستراتيجي يتمثل بالعراق كله، كونه معبراً لها نحو بلاد الشام والمتوسط. إن زمنا عصيبا سيمر على انقسام العراق، ليحدد مصيره المقبل، بعيدا عن التقسيم.