19 أكتوبر 2024
العرب إلى أين؟
ليست تأثيرات أزمات العرب منعزلة عن بعضها، حتى وإن اعتقدت دوائر صنع القرار ذلك، فالوقائع، الجارية والتاريخية، أثبتت أن كل أزمة إقليمية تنتج حزمةً من التداعيات التي تدخل في مجال التأثير لكل دولةٍ من الخواصر الضعيفة، ومن حيث لا تستطيع أجهزة تلك الدولة منعها، ولا حتى تقدير حصولها.
ربما، وحدهم العرب لم يصلوا بعد إلى هذا الاكتشاف الذي يكاد يسجل في خانة بديهيات الأزمات الإقليمية. لذلك تسارع المنظمات الإقليمية، عبر أدواتها، إلى محاولة السيطرة على الأزمة قبل وقوعها، وإذا وقعت، فعادة ما تجري محاولة التخفيف من حدتها ومن تداعياتها، ومن الإجراءات المتبعة صيانة الأمن الإقليمي.
أثبتت أزمات التاريخ المعاصر، والتي يمكن التأريخ لبدايتها منذ الغزو الأميركي للعراق، أن العرب هم من يدفعون ثمن الأزمات من بابها إلى محرابها، عدا عن الخسائر الجانبية هنا وهناك. وهكذا، فإن كل أزمة تحسم من أرصدتهم ومن قوتهم أسهما كثيرة، وتكون نتائجها، في الغالب، انكشافا على المستوى الإستراتيجي، بكل عناصره الأمنية والسياسية والاقتصادية، وأخيرا بات النسيج الوطني والوحدة الاجتماعية من أبرز عناصر الخسارة.
في الجولة الأخيرة، انهزم العرب، تكتيكيا واستراتيجيا. انهزموا لأن القوى الخارجية حوّلت
الفضاء العربي إلى ساحة لصراعاتها الجيوسياسية، وعلى حساب الثروات والأمن العربيين، وانهزموا في إدارة الأزمة، والتقليل من آثار مخرجاتها، بل تم تهميشهم إلى أبعد الحدود، ولم يتح لهم الاشتراك في تقرير مصير الإقليم، على الرغم من الترابط الأمني الهائل بين وحداته.
يعيش الإقليم اليوم مرحلة إعادة ترتيب الأوضاع، وتقييم الفرص والمخاطر. تدور جميع السياسات الإقليمية والدولية حول هذا الحدث الكبير، صراعا وتفاوضا، وحدهم العرب غائبون عن المعترك، ويتلقطون أخباره من أطرافٍ خارجية، وكأن الأزمة ليست مقيمة في بلدانهم.
لكن، هل يعاد إنتاج الأزمة (الأزمات) في العالم العربي، على اعتبار أن نتائج جولة الصراع الحالية، على الرغم من كارثيتها على العرب، لم تكن كافية لحسم تراتبية مواقع الأطراف الإقليمية والدولية؟ مع العلم أن نتائج هذه الجولة كانت كافيةً لإحداث تأثيرات مديدة، ستترك آثار أعطابها في الجسد العربي سنوات، إن لم يكن، لعقود مقبلة؟ لا شك أن مخرجات المرحلة الحالية، وبما أنها ستكون لصالح أطراف إقليمية ودولية، فمن الطبيعي أنها سترتب خسارة طويلة الأمد على أطراف أخرى، وهذا ليس تقديرا بقدر ما هو واقع، له مقدمات واضحة، ستبنى عليها نتائج مؤكدة.
هل ثمة طريقة لوقف مسار الانحدار الذي وجد العرب أنفسهم في سياقه، حالهم حال قشة تجرفها مياه نهر متدفق؟ هل علينا أن نقف عند مرحلة وصف الأحداث والتفجع على نتائجها؟ مللنا هذا الدور، وأرهقتنا الأحداث، وهرمنا يا صاحب تونس، وسؤال "ما العمل؟" أكثر الأسئلة المستدامة في حياتنا، ورثه آباؤنا عن أجدادنا، ولا نريد أن نورثه لأبنائنا. نحن أمةٌ، على الرغم من كل ثرواتها وإمكاناتها لم تستطع أن تورث لأجيالها أكثر من سؤال "ما العمل؟".
مثل بقية شعوب الأرض، كانت لنا مبادراتنا على الدوام، كنا شركاء جادين في حقبة محاربة الكولونيالية والنضال التحرّري ضد العبودية، وقدمت ثوراتنا، من الجزائر إلى مصر وفلسطين، حصة كبيرة من الدم في بورصة التحرّر العالمي، ولكن عند حساب الغلة نكتشف أنه "ما في شي"، ولا حتى استرجعنا جزءا من رأس المال، فلا الدول التي صنعناها كانت دولا بمعنى الكلمة، ولا شيء فيها يمت لنا بصلة، لا الجيوش ولا الزعماء، ولا حتى ما تسمى الأناشيد الوطنية.
أسس ذلك كله لمسار الربيع العربي، وهو أيضا مبادرة من شعوبنا لمشاركة العالم في صناعة قيم الحرية والديمقراطية. انطلقنا، تماماً، من النقطة التي انطلقت منها ثورات الشعوب، التاريخية والمعاصرة، حيث الفساد والاستبداد في ذروته، كان لدينا بدل ماري أنطوانيت واحدة كثيرات في قصور الحكم العربية اللاتي يعتقدن أن الكعك بديل مناسب للشعوب التي لا تجد الخبز.
ولم يكن الربيع العربي ابن ساعته، بل نتاج عمل سنوات طويلة، تصل إلى مرحلة النكسة.
ونحن ننظر للربيع العربي، لكن كانت دائما تنظيراتنا غير واضحةٍ ومرتجفة، وغير أصيلة، وليس لها أساس وبنيان قوي. وجاء الربيع على شاكلتها، حماسة كبيرة وتضحيات جسام من دون تأثيرات عميقة، وإذا كان معيار الانتصارات والخسائر كمْ من السلطة تحصّل فنتيجة الربيع العربي صفر، وإذا كان المعيار حجم التغيرات فالنتيجة سلبية، وتحت الصفر بكثير.
وصلنا اليوم إلى مرحلةٍ الجميع مهزوم فيها، شعوبا ونخبا وأنظمة، ومن يقول عكس ذلك يكابر على خازوق، وليست شعوب العراق وسورية وفلسطين الوحيدة المنكوبة، جميع الشعوب العربية تعيش النكبة بطرق مختلفة، وتبدو هزيمة الشعوب مركّبة وقاسية، فبالإضافة إلى نكبات التهجير والقتل، خرجوا من المعركة الأخيرة موسومين بالإرهاب، أما الأنظمة فعزاؤها بقاؤها في السلطة، ولو على جثة الأوطان، فإلى أين نسير بعد سلسلة طويلة من الانكشافات الأمنية والعسكرية التي حوًلتنا إلى عراة، يستعرض الخارج الإقليمي والدولي عرينا في كرنفال لا نهاية له.
لا أحد يستطيع الزعم أن لديه خريطة طريق للخروج من الواقع المرير، أصلاً الجميع غارق في لجج الكارثة، ويلهثون لفهم التطورات المتدفقة كالسيل الجارف، كما أن كل الطاقات موجهة لتخفيف حجم الآثار الكارثية. لكن ثمة اعتقاد بأن هناك نخبا وقوى حيّة ستظهر قريباً، لن تسأل عن العمل، لأنها باتت تعرف تماماً مواطن العلّة، وكيف ومتى وأين ستجتثها. لا شيء ببلاش، كما يقول المثل، ومسيرة عذابات الربيع العربي وما قبله لن تنتهي عند بحور الدماء التي نزفت.. ثمّة بذرة للخلاص، روتها تلك الدماء.
ربما، وحدهم العرب لم يصلوا بعد إلى هذا الاكتشاف الذي يكاد يسجل في خانة بديهيات الأزمات الإقليمية. لذلك تسارع المنظمات الإقليمية، عبر أدواتها، إلى محاولة السيطرة على الأزمة قبل وقوعها، وإذا وقعت، فعادة ما تجري محاولة التخفيف من حدتها ومن تداعياتها، ومن الإجراءات المتبعة صيانة الأمن الإقليمي.
أثبتت أزمات التاريخ المعاصر، والتي يمكن التأريخ لبدايتها منذ الغزو الأميركي للعراق، أن العرب هم من يدفعون ثمن الأزمات من بابها إلى محرابها، عدا عن الخسائر الجانبية هنا وهناك. وهكذا، فإن كل أزمة تحسم من أرصدتهم ومن قوتهم أسهما كثيرة، وتكون نتائجها، في الغالب، انكشافا على المستوى الإستراتيجي، بكل عناصره الأمنية والسياسية والاقتصادية، وأخيرا بات النسيج الوطني والوحدة الاجتماعية من أبرز عناصر الخسارة.
في الجولة الأخيرة، انهزم العرب، تكتيكيا واستراتيجيا. انهزموا لأن القوى الخارجية حوّلت
يعيش الإقليم اليوم مرحلة إعادة ترتيب الأوضاع، وتقييم الفرص والمخاطر. تدور جميع السياسات الإقليمية والدولية حول هذا الحدث الكبير، صراعا وتفاوضا، وحدهم العرب غائبون عن المعترك، ويتلقطون أخباره من أطرافٍ خارجية، وكأن الأزمة ليست مقيمة في بلدانهم.
لكن، هل يعاد إنتاج الأزمة (الأزمات) في العالم العربي، على اعتبار أن نتائج جولة الصراع الحالية، على الرغم من كارثيتها على العرب، لم تكن كافية لحسم تراتبية مواقع الأطراف الإقليمية والدولية؟ مع العلم أن نتائج هذه الجولة كانت كافيةً لإحداث تأثيرات مديدة، ستترك آثار أعطابها في الجسد العربي سنوات، إن لم يكن، لعقود مقبلة؟ لا شك أن مخرجات المرحلة الحالية، وبما أنها ستكون لصالح أطراف إقليمية ودولية، فمن الطبيعي أنها سترتب خسارة طويلة الأمد على أطراف أخرى، وهذا ليس تقديرا بقدر ما هو واقع، له مقدمات واضحة، ستبنى عليها نتائج مؤكدة.
هل ثمة طريقة لوقف مسار الانحدار الذي وجد العرب أنفسهم في سياقه، حالهم حال قشة تجرفها مياه نهر متدفق؟ هل علينا أن نقف عند مرحلة وصف الأحداث والتفجع على نتائجها؟ مللنا هذا الدور، وأرهقتنا الأحداث، وهرمنا يا صاحب تونس، وسؤال "ما العمل؟" أكثر الأسئلة المستدامة في حياتنا، ورثه آباؤنا عن أجدادنا، ولا نريد أن نورثه لأبنائنا. نحن أمةٌ، على الرغم من كل ثرواتها وإمكاناتها لم تستطع أن تورث لأجيالها أكثر من سؤال "ما العمل؟".
مثل بقية شعوب الأرض، كانت لنا مبادراتنا على الدوام، كنا شركاء جادين في حقبة محاربة الكولونيالية والنضال التحرّري ضد العبودية، وقدمت ثوراتنا، من الجزائر إلى مصر وفلسطين، حصة كبيرة من الدم في بورصة التحرّر العالمي، ولكن عند حساب الغلة نكتشف أنه "ما في شي"، ولا حتى استرجعنا جزءا من رأس المال، فلا الدول التي صنعناها كانت دولا بمعنى الكلمة، ولا شيء فيها يمت لنا بصلة، لا الجيوش ولا الزعماء، ولا حتى ما تسمى الأناشيد الوطنية.
أسس ذلك كله لمسار الربيع العربي، وهو أيضا مبادرة من شعوبنا لمشاركة العالم في صناعة قيم الحرية والديمقراطية. انطلقنا، تماماً، من النقطة التي انطلقت منها ثورات الشعوب، التاريخية والمعاصرة، حيث الفساد والاستبداد في ذروته، كان لدينا بدل ماري أنطوانيت واحدة كثيرات في قصور الحكم العربية اللاتي يعتقدن أن الكعك بديل مناسب للشعوب التي لا تجد الخبز.
ولم يكن الربيع العربي ابن ساعته، بل نتاج عمل سنوات طويلة، تصل إلى مرحلة النكسة.
وصلنا اليوم إلى مرحلةٍ الجميع مهزوم فيها، شعوبا ونخبا وأنظمة، ومن يقول عكس ذلك يكابر على خازوق، وليست شعوب العراق وسورية وفلسطين الوحيدة المنكوبة، جميع الشعوب العربية تعيش النكبة بطرق مختلفة، وتبدو هزيمة الشعوب مركّبة وقاسية، فبالإضافة إلى نكبات التهجير والقتل، خرجوا من المعركة الأخيرة موسومين بالإرهاب، أما الأنظمة فعزاؤها بقاؤها في السلطة، ولو على جثة الأوطان، فإلى أين نسير بعد سلسلة طويلة من الانكشافات الأمنية والعسكرية التي حوًلتنا إلى عراة، يستعرض الخارج الإقليمي والدولي عرينا في كرنفال لا نهاية له.
لا أحد يستطيع الزعم أن لديه خريطة طريق للخروج من الواقع المرير، أصلاً الجميع غارق في لجج الكارثة، ويلهثون لفهم التطورات المتدفقة كالسيل الجارف، كما أن كل الطاقات موجهة لتخفيف حجم الآثار الكارثية. لكن ثمة اعتقاد بأن هناك نخبا وقوى حيّة ستظهر قريباً، لن تسأل عن العمل، لأنها باتت تعرف تماماً مواطن العلّة، وكيف ومتى وأين ستجتثها. لا شيء ببلاش، كما يقول المثل، ومسيرة عذابات الربيع العربي وما قبله لن تنتهي عند بحور الدماء التي نزفت.. ثمّة بذرة للخلاص، روتها تلك الدماء.