العرب وإيران.. "صبي" المعلم!
حدث، قبل سنوات، في جلسة نقاش بشأن العلاقات العربية الإيرانية، أن ضيفاً عربياً خاطب مسؤولاً إيرانيا له دوره السياسي والعسكري: لماذا لا تبادرون أنتم، وتحاورون جيرانكم (إخوانكم) العرب في الخليج؟ ابتسم المسؤول الإيراني، وأجاب بعبارة مقتضبة: عندما نكون قادرين على التحدث مع المعلم (أميركا)، فما الذي يضطرّنا لمحادثة "صبيه"؟
وبعد التقارب الإيراني الأميركي، والمحادثات السرية وغير السرية، والتي قادت إلى صفقات جزئية، والتهيئة لأخرى شاملة، بدأ العرب يتدافعون فرادى نحو إيران التي كانوا يكيلون لها الشتائم، في تعزيز للصورة الذهنية المطبوعة في الذهن السياسي الإيراني عن العربي التابع.
بقيت العلاقة بين الجيران (العرب وإيران) محكومة بصورة كبيرة بالطريقة التي يرى كل طرف فيها الآخر، وكانت الصورة المتجذرة في عقل كل طرف تأتي محاطة بإشكاليات ثقافية واجتماعية وسياسية كثيرة. ولا نجانب الحقيقة إن قلنا إن الخريطة الإدراكية المشحونة بالصراع والصور السلبية تعود، في جذورها، إلى ما هو سابق لحالات الصراع الحديثة بين الجانبين. مع ملاحظة أن هذه الخريطة الإدراكية تبنى حينما يأتي السلوك رد فعل للواقع، كما يدركه الإنسان بكل تركيبته، ومن خلال ما يسقطه على هذا الواقع من رموز وذكريات، وأحقاد وتسامح، ونيّات، وأطماع ومخاوف، محتكماً إلى منظوماته الأخلاقية أو الرمزية، وأيضا الأيديولوجية.
وجه ما سمي " الربيع العربي" الذي تآمرت عليها حكومات عربية، وجاء مصحوباً بدماء بريئة، وبرغبة شبابية عارمة بالحرية والكرامة، وجه ضربة مباشرة للصورة القابعة في الإدراك الإيراني عن "العربي الذي لا يملك القرار" و"العربي المستلب من الخارج"، و"العربي الغارق في المال والجهل"، فقد وجد الإيرانيون، على اختلاف توجهاتهم، أنفسهم أمام صورة لم يعهدها إدراكهم عن العربي الخاضع الذي لا يثور، ولا يستطيع إنجاز ثورة تداني ثورتهم الإسلامية التي يتباهون بها. كان من المحزن أن يجهز العرب أنفسهم على انتفاضات شبابهم معززين، بوعي أو من غير وعي، مقولة العربي "الصبي" المقيمة عميقاً في ذهنية الإيراني.
كان التقارب بين العرب وإيران عملاً تفرضه مقتضيات الجوار، ويجيب على تحدي الجغرافيا الذي يواجه الجميع، لكن التقارب، اليوم، يأتي في فترة تتعالى فيها نبرة القومية والتفوق الإيراني، بصورة لم تشهدها الجمهورية الإسلامية من قبل. وفي الاندفاعة نحو إيران، يواصل العرب الحديث عن "الأمة العربية"، "الأمة" المتخيلة، ولذلك، يواجهون الفشل تلو الآخر، لأن "الأمة"، وفقاً لنظرية بندكت أندرسون، لا يمكن تعريفها، فقط بالاستفادة من معايير وتعاريف "متخيلة" و"خارجية"، ممزوجة بكم من الحقائق الاجتماعية، فالأمة، بدلا من ذلك، هي نوع من الاجتماع السياسي، وهي مقولة إبداعية ومحسوبة. ومقولات العرب اليوم بشأن "الأمة" لا تحمل صفتي: إبداعية ومحسوبة.
ولعل من مصائب السياسة العربية، أيضاً، أن الأطراف العربية التي رفضت فكرة تعزيز العلاقات مع الجارة إيران، وقت أن كان ميزان القوى يساعدها لتحقيق علاقةٍ تقوم على الاحترام، طالبت واشنطن، بـ"قطع رأس الأفعى"، عوضاً عن التقارب، لكنها اليوم تمضي في ذلك، فيما كفة الميزان تميل لمصلحة إيران، وبعد أن خسر العرب العراق بـ"جدارة"، يسلمون سورية التي لن تشفى من جراحها العميقة، وستكون العراق "مزحة" أمام الحالة السورية. كان الخطاب الأيديولوجي داخلاً على الدوام في تكوين "الهوية القومية العربية"، وكذلك الحال بالنسبة
لـ" الهوية القومية الإيرانية الحديثة"، ومن عجائب الحالة العربية، اليوم، أن ينبري كثيرون في تيار القومية العربية للدفاع عن المواقف الإيرانية، على الرغم من نبرتها القومية التي لم تعد خافية، وخرجت من تحت رماد شعارات الأخوة والوحدة الإسلامية.
لا يصدق على حالتنا هذه سوى ما خطه جورج أورويل، في روايته التي لن تتكرر " 1984"، ونصه: "تلك هي النتيجة الوحيدة التي ستلمسونها، لأنه لا يتوقع أن تحدث أي تغيرات محسوسة في المستقبل القريب، وفي ظل هذه الحال، نحن أموات، ولا حياة لنا إلا في المستقبل الذي سوف نسهم في بنائه، كذرات غبار أو كشظايا عظام. لكن، كم يبعد المستقبل عن حاضرنا؟ لا أحد يعلم، وما علينا في وقتنا الراهن إلا أن نوسع دائرة فكرتنا شيئاً فشيئاً. ولأننا لن نستطيع العمل بصورة جماعية، فلا سبيل أمامنا إلا أن ننشر أفكارنا، من فردٍ إلى فرد، ومن جيل إلى جيل".