لا يمكن التعرف على الأحياء اللبنانية الشعبية من دون التجول فيها سيراً على الأقدام. فالتجول البطيء بين شوارعها الضيقة في الساعات الأولى من الصباح يكشف الوجه الحقيقي لها بعيداً عن الأحكام المُسبقة التي يُطلقها كثيرون عن سكان هذه المناطق أو مستواها الاقتصادي.
يبدأ الصباح باكراً في منطقة الرمل العالي في الضاحية الجنوبية على تخوم العاصمة بيروت. تتزاحم شاحنات البضائع المتنوعة من الدواجن والخضار للدخول إلى شوارع المنطقة الضيقة، وإفراغ حمولتها في المحال التجارية التي تمتد من الأرصفة إلى الشوارع لتتحول المنطقة برمتها إلى سوق شعبي كبير. تتصارع الشاحنات مع شبكة الأسلاك الكهربائية التي تتقاطع عشوائياً فوق الشوارع الضيقة.
ومع مغادرة هذه الشاحنات تنطلق عملية البيع والشراء في البسطات والمحال المُتزاحمة حتى ساعات بعد الظهر. وما إن يحل المساء حتى تتحول نفس الشوارع إلى المهرب الوحيد للشبان والرجال الذي يغادرون شققهم الضيقة للسهر في الشوارع.
يجلس البعض على دراجاتهم النارية أو قطع من الأثاث وُضعت في الشارع بشكل دائم. ترافقهم أصوات مولدات الكهرباء التي تعوض انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، كما تعوض شاحنات نقل المياه انقطاع مياه الشفة، وملوحة مياه الآبار التي باتت تشفط مياه البحر بدل المياه الجوفية.
تتشابه هذه المشاهد في أحياء عدة في بيروت ومُحيطها، من صبرا ومخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين القريب منها، ومنطقة برج البراجنة ومخيم اللاجئين القريب منها، وصولاً إلى أحياء داخل العاصمة كحي اللجا وخندق الغميق.
اقرأ أيضا: فوضى لبنان المرورية.. عراقيل تواجه تطبيق قانون السير الجديد
جيران مخيمات اللجوء
تعدد الأستاذة الجامعية المتخصصة في الدراسات الحضرية والتخطيط، منى فواز، لـ"العربي الجديد" أبرز المغالطات التي تطاول نشوء هذه الأحياء التي تضم "مساكن غير لائقة"، والتي تختلف عن مفهوم العشوائيات المُنتشرة في العالم العربي.
وتشير فواز بداية إلى أن "نشوء هذه الأحياء لم يُرافق الحرب الأهلية اللبنانية كما يعتقد الكثيرون، بل بدأ منذ أواسط القرن الماضي، إذ كانت محاولة طرد المُقيمين في منطقة الرمل العالي أحد أسباب ثورة عام 1958 ضد حكم الرئيس شمعون، وساهم غياب سياسات الإسكان الرسمية، والتعاطي مع الأراضي من مُنطلق اقتصادي ونسيان وظيفتها الاجتماعية في زيادة ظواهر التعدي على الأملاك الخاصة (بناء غير شرعي واحتلال عقارات) وزيادة نسبة الاستثمار في العقارات المبنية دون سند قانوني". إذ تقوم أغلب هذه المخالفات على أملاك خاصة منحها قانون الانتداب الفرنسي إلى عدد من العائلات اللبنانية بعد إلغاء قانون المشاع العثماني.
وقد اتخذت هذه الظاهرة أشكالاً مُتعددة من دفع الرشاوى مقابل البناء في أملاك خاصة منذ خمسينيات القرن الماضي لأسباب اجتماعية مع موجات النزوح من البلدات البقاعية والجنوبية إلى المدن، أو تمدد المخيمات الفلسطينية إلى محيطها لأسباب سياسية مُتعلقة بفائض قوة المنظمات الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، وتأجير اللاجئين الفلسطينيين لمنازلهم داخل المخيمات إلى لبنانيين فقراء وانتقالهم إلى الأحياء المُجاورة.
تربط فواز بين نشأة المخيمات الفلسطينية وجذبها للمواطنين اللبنانيين الفقراء للإقامة حولها، "وهو ما حدث مع المخيمات الفلسطينية والأرمنية مع لجوء العمال القادمين من البلدات للعمل في بيروت إلى هذه المناطق بحثاً عن مأوى رخيص مادياً، لكن التاريخ أخرج بعض هذه الأحياء من الذاكرة كحي الدكوانة، شرقي بيروت، الذي تعرض للتدمير مع مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين خلال الحرب الأهلية، وحيي الزعيترية والنبعة اللذين يضمان عائلات شيعية في منطقة الفنار ذات الأغلبية المسيحية. وقد أخرجت التطورات السياسية والأمنية الحيين من دائرة الأحياء ذات المساكن غير اللائقة إلى بقعة خطر أمني مع انتشار تجارة المخدرات فيهما".
لكن التاريخ، في المقابل، خلّد ذكرى أحياء أُخرى لا سيّما مخيم صبرا ومنطقة شاتيلا ومخيمها المتداخل معها. تعرضت المنطقتان للحصار من قبل القوات الإسرائيلية والمليشيات اليمينية اللبنانية المُتحالفة معها قبل أن تشهد مجزرة قُتل فيها آلاف اللبنانيين والفلسطينيين. ويؤشر سقوط ضحايا من الجنسيتين إلى حجم التداخل بين حي شاتيلا والمخيم مما يولد انطباعاً بأن المنطقة كُلها هي مخيم.
وتعود التسمية إلى عائلة صبرا التي أطلق اسمها على الشارع الذي يمر من حي الدنا في منطقة الطريق الجديدة ببيروت وينتهي عند مدخل مخيم شاتيلا. تتبع صبرا إدارياً لبلدية الغبيري في محافظة جبل لبنان. وتحدها بيروت من الشمال والغرب ومدافن الشهداء وقصقص من الشرق ومخيم شاتيلا من الجنوب.
وتشير فواز إلى تبدل هوية المقيمين في هذه الأحياء مع تأثير الأزمة السورية على الوضع في لبنان، "فتشكل هذه الأحياء مقصداً للعائلات السورية التي تبحث عن مكان للسكن، فزادت الكثافة السكانية في الأحياء بعد تحول فئة المُقيمين من عمال إلى عائلات وزاد الضغط على البنى التحتية".
وبعكس العشوائيات العربية توجد في هذه الأحياء بنى تحتية من شبكات صرف صحي وكهرباء ومياه، ولو بحدها الأدنى. كما تم ربط هذه الأحياء بالمؤسسات التعليمية والتجارية في قلب العاصمة بيروت من خلال شبكة مواصلات تقوم على حافلات خاصة صغيرة سدت الفراغ الناتج عن ضعف شبكة المواصلات العامة في البلاد. فأصبح انتقال سكان هذه الأحياء سهلاً في "باص رقم 4" الشهير الذي يتنقل بين الحدت على الحدود بين محافظتي بيروت وجبل لبنان إلى الحمرا مروراً بأحياء الجاموس، مار مخايل (قرب حارة حريك)، الطيونة، بشارة الخوري، وسط البلد.
اقرأ أيضا: لبنان: مجموعات عسكرية في خدمة "8 آذار" (2)
"غرين كارد" الصين الشعبية
ساهم توسع الأحياء ذات المساكن غير اللائقة في امتدادها خارج النطاقات البلدية للمناطق التي كانت تتبع لها في الأصل ما أوجد سلسلة مشاكل في البنى التحتية لهذه المناطق. وتشكل منطقتا برج البراجنة وحي السلم، أو "الصين الشعبية" كما يُطلق عليها سُكانها، مثالاً صريحاً على ذلك. فتتجدد شكاوى المواطنين مع كل موسم شتاء مع تقاذف البلديات المُحيطة لمسؤولية تأهيل البُنى التحتية فيها للحؤول دون طوفان الشوارع بمياه الأمطار.
وتُضاف مُشكلة قيد دائرة النفوس إلى مُشكلة الصلاحيات البلدية، فيُحرم آلاف المُقيمين في برج البراجنة مثلاً من حق التصويت في المجالس البلدية والاختيارية بسبب "رفض السكان الأصليين نقل نفوس القادمين من القرى البقاعية والجنوبية إلى المنطقة"، بحسب أحد فعاليات برج البراجنة.
يصف الرجل أزمة النفوس بطريقة كوميدية: "يرفض السكان الأصليون منح غرين كارد (بطاقة إقامة) لأبناء القرى المُقيمين في البرج منذ عشرات السنوات، وهو أمر عنصري". وكما كل المجالات العامة في لبنان، تلعب الطائفية دوراً في وصم هذه الأحياء بصفات "الاحتلال" أو "وضع اليد"، بعد أن دفعت الظروف السياسية والعسكرية بسكان المناطق الأصليين من مسيحيين ومسلمين سنة لمغادرة مناطقهم طوعاً وكرهاً وتركها للوافدين الشيعة.
وتحافظ بعض الأحياء في الضاحية الجنوبية لبيروت على تواجد العائلات السنية كآل العرب الذين يحتفظون بحيهم في منطقة برج البراجنة، في حين طويت صفحة الوجود المسيحي في منطقة حارة حريك مثلاً. فيترشح رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" البرلماني، النائب ميشال عون، المولود في حارة حريك عن دائرة قضاء كسروان في الانتخابات النيابية بدل الترشح عن مسقط رأسه. كما يقيم الرجل في منطقة الرابية شمالي العاصمة بيروت، ولم يزُر الضاحية الجنوبية وحارة حريك سوى لمرات قليلة التقى خلالها أمين عام حزب الله، حسن نصر الله.
اقرأ أيضا: "قادة المحاور".. نخبةٌ جديدة في المجتمع الطائفيّ اللبنانيّ (1)
القوننة بدل الإلغاء
سبقت التطورات الاجتماعية والسياسية في هذه الأحياء الخطط الحكومية المُرتبطة بالإسكان، والتي تتصف بـ"إعطاء الأولوية لاستثمار الأراضي اقتصادياً"، بحسب الدكتورة فواز. فكان "تحريك السوق العقاري الجامد الهدف الأساسي من إعطاء قروض السكن عبر مصرف الإسكان التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية منذ عام 1996 وليس مساعدة المواطنين على شراء عقار للإقامة فيه وهو ما تشير إليه الإجراءات الصعبة للحصول على قرض الإسكان".
كما تضع فواز مشروع "إليسار" الذي طرح في تسعينيات القرن الماضي في إطار "استثمار الشواطئ جنوبي بيروت وليس إعادة توطين آلاف العائلات الجنوبية التي استقرت قرب هذه المناطق وأنشأت الأبنية فيها بصورة مُخالفة للقانون خلال الحرب الأهلية". وتؤكد فواز أن "رفض فرض الضرائب العقارية للحد من المضاربات مُستمر منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ما أدى إلى زيادة أسعار العقارات بشكل كبير".
وقد شجّع التعاطي الحكومي مع هذا الملف على توسع البناء غير الشرعي في هذه الأحياء مع كل حدث أمني وعسكري، لا سيما خلال حرب تموز عام 2006، وأحداث السابع من مايو/أيار 2008. وعادة ما يتحول قمع القوى الأمنية لمخالفات البناء إلى اشتباكات بين السُكان والدوريات الأمنية، وفي وقت تستمر فيه مخالفات البناء في المخيمات الفلسطينية الواقعة تحت سلطة الفصائل الأمنية منذ انتهاء الحرب الأهلية. وهي عوامل ترسخ "استقالة الدولة اللبنانية من مسؤولياتها الاجتماعية"، كما تقول فواز.
-------
اقرأ أيضا:
حال اليسار العربي4.. أمراض الدولة تصيب "الشيوعي" اللبناني
يبدأ الصباح باكراً في منطقة الرمل العالي في الضاحية الجنوبية على تخوم العاصمة بيروت. تتزاحم شاحنات البضائع المتنوعة من الدواجن والخضار للدخول إلى شوارع المنطقة الضيقة، وإفراغ حمولتها في المحال التجارية التي تمتد من الأرصفة إلى الشوارع لتتحول المنطقة برمتها إلى سوق شعبي كبير. تتصارع الشاحنات مع شبكة الأسلاك الكهربائية التي تتقاطع عشوائياً فوق الشوارع الضيقة.
ومع مغادرة هذه الشاحنات تنطلق عملية البيع والشراء في البسطات والمحال المُتزاحمة حتى ساعات بعد الظهر. وما إن يحل المساء حتى تتحول نفس الشوارع إلى المهرب الوحيد للشبان والرجال الذي يغادرون شققهم الضيقة للسهر في الشوارع.
يجلس البعض على دراجاتهم النارية أو قطع من الأثاث وُضعت في الشارع بشكل دائم. ترافقهم أصوات مولدات الكهرباء التي تعوض انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، كما تعوض شاحنات نقل المياه انقطاع مياه الشفة، وملوحة مياه الآبار التي باتت تشفط مياه البحر بدل المياه الجوفية.
تتشابه هذه المشاهد في أحياء عدة في بيروت ومُحيطها، من صبرا ومخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين القريب منها، ومنطقة برج البراجنة ومخيم اللاجئين القريب منها، وصولاً إلى أحياء داخل العاصمة كحي اللجا وخندق الغميق.
اقرأ أيضا: فوضى لبنان المرورية.. عراقيل تواجه تطبيق قانون السير الجديد
جيران مخيمات اللجوء
تعدد الأستاذة الجامعية المتخصصة في الدراسات الحضرية والتخطيط، منى فواز، لـ"العربي الجديد" أبرز المغالطات التي تطاول نشوء هذه الأحياء التي تضم "مساكن غير لائقة"، والتي تختلف عن مفهوم العشوائيات المُنتشرة في العالم العربي.
وتشير فواز بداية إلى أن "نشوء هذه الأحياء لم يُرافق الحرب الأهلية اللبنانية كما يعتقد الكثيرون، بل بدأ منذ أواسط القرن الماضي، إذ كانت محاولة طرد المُقيمين في منطقة الرمل العالي أحد أسباب ثورة عام 1958 ضد حكم الرئيس شمعون، وساهم غياب سياسات الإسكان الرسمية، والتعاطي مع الأراضي من مُنطلق اقتصادي ونسيان وظيفتها الاجتماعية في زيادة ظواهر التعدي على الأملاك الخاصة (بناء غير شرعي واحتلال عقارات) وزيادة نسبة الاستثمار في العقارات المبنية دون سند قانوني". إذ تقوم أغلب هذه المخالفات على أملاك خاصة منحها قانون الانتداب الفرنسي إلى عدد من العائلات اللبنانية بعد إلغاء قانون المشاع العثماني.
تربط فواز بين نشأة المخيمات الفلسطينية وجذبها للمواطنين اللبنانيين الفقراء للإقامة حولها، "وهو ما حدث مع المخيمات الفلسطينية والأرمنية مع لجوء العمال القادمين من البلدات للعمل في بيروت إلى هذه المناطق بحثاً عن مأوى رخيص مادياً، لكن التاريخ أخرج بعض هذه الأحياء من الذاكرة كحي الدكوانة، شرقي بيروت، الذي تعرض للتدمير مع مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين خلال الحرب الأهلية، وحيي الزعيترية والنبعة اللذين يضمان عائلات شيعية في منطقة الفنار ذات الأغلبية المسيحية. وقد أخرجت التطورات السياسية والأمنية الحيين من دائرة الأحياء ذات المساكن غير اللائقة إلى بقعة خطر أمني مع انتشار تجارة المخدرات فيهما".
لكن التاريخ، في المقابل، خلّد ذكرى أحياء أُخرى لا سيّما مخيم صبرا ومنطقة شاتيلا ومخيمها المتداخل معها. تعرضت المنطقتان للحصار من قبل القوات الإسرائيلية والمليشيات اليمينية اللبنانية المُتحالفة معها قبل أن تشهد مجزرة قُتل فيها آلاف اللبنانيين والفلسطينيين. ويؤشر سقوط ضحايا من الجنسيتين إلى حجم التداخل بين حي شاتيلا والمخيم مما يولد انطباعاً بأن المنطقة كُلها هي مخيم.
وتعود التسمية إلى عائلة صبرا التي أطلق اسمها على الشارع الذي يمر من حي الدنا في منطقة الطريق الجديدة ببيروت وينتهي عند مدخل مخيم شاتيلا. تتبع صبرا إدارياً لبلدية الغبيري في محافظة جبل لبنان. وتحدها بيروت من الشمال والغرب ومدافن الشهداء وقصقص من الشرق ومخيم شاتيلا من الجنوب.
وبعكس العشوائيات العربية توجد في هذه الأحياء بنى تحتية من شبكات صرف صحي وكهرباء ومياه، ولو بحدها الأدنى. كما تم ربط هذه الأحياء بالمؤسسات التعليمية والتجارية في قلب العاصمة بيروت من خلال شبكة مواصلات تقوم على حافلات خاصة صغيرة سدت الفراغ الناتج عن ضعف شبكة المواصلات العامة في البلاد. فأصبح انتقال سكان هذه الأحياء سهلاً في "باص رقم 4" الشهير الذي يتنقل بين الحدت على الحدود بين محافظتي بيروت وجبل لبنان إلى الحمرا مروراً بأحياء الجاموس، مار مخايل (قرب حارة حريك)، الطيونة، بشارة الخوري، وسط البلد.
اقرأ أيضا: لبنان: مجموعات عسكرية في خدمة "8 آذار" (2)
"غرين كارد" الصين الشعبية
ساهم توسع الأحياء ذات المساكن غير اللائقة في امتدادها خارج النطاقات البلدية للمناطق التي كانت تتبع لها في الأصل ما أوجد سلسلة مشاكل في البنى التحتية لهذه المناطق. وتشكل منطقتا برج البراجنة وحي السلم، أو "الصين الشعبية" كما يُطلق عليها سُكانها، مثالاً صريحاً على ذلك. فتتجدد شكاوى المواطنين مع كل موسم شتاء مع تقاذف البلديات المُحيطة لمسؤولية تأهيل البُنى التحتية فيها للحؤول دون طوفان الشوارع بمياه الأمطار.
وتُضاف مُشكلة قيد دائرة النفوس إلى مُشكلة الصلاحيات البلدية، فيُحرم آلاف المُقيمين في برج البراجنة مثلاً من حق التصويت في المجالس البلدية والاختيارية بسبب "رفض السكان الأصليين نقل نفوس القادمين من القرى البقاعية والجنوبية إلى المنطقة"، بحسب أحد فعاليات برج البراجنة.
يصف الرجل أزمة النفوس بطريقة كوميدية: "يرفض السكان الأصليون منح غرين كارد (بطاقة إقامة) لأبناء القرى المُقيمين في البرج منذ عشرات السنوات، وهو أمر عنصري". وكما كل المجالات العامة في لبنان، تلعب الطائفية دوراً في وصم هذه الأحياء بصفات "الاحتلال" أو "وضع اليد"، بعد أن دفعت الظروف السياسية والعسكرية بسكان المناطق الأصليين من مسيحيين ومسلمين سنة لمغادرة مناطقهم طوعاً وكرهاً وتركها للوافدين الشيعة.
وتحافظ بعض الأحياء في الضاحية الجنوبية لبيروت على تواجد العائلات السنية كآل العرب الذين يحتفظون بحيهم في منطقة برج البراجنة، في حين طويت صفحة الوجود المسيحي في منطقة حارة حريك مثلاً. فيترشح رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" البرلماني، النائب ميشال عون، المولود في حارة حريك عن دائرة قضاء كسروان في الانتخابات النيابية بدل الترشح عن مسقط رأسه. كما يقيم الرجل في منطقة الرابية شمالي العاصمة بيروت، ولم يزُر الضاحية الجنوبية وحارة حريك سوى لمرات قليلة التقى خلالها أمين عام حزب الله، حسن نصر الله.
اقرأ أيضا: "قادة المحاور".. نخبةٌ جديدة في المجتمع الطائفيّ اللبنانيّ (1)
القوننة بدل الإلغاء
سبقت التطورات الاجتماعية والسياسية في هذه الأحياء الخطط الحكومية المُرتبطة بالإسكان، والتي تتصف بـ"إعطاء الأولوية لاستثمار الأراضي اقتصادياً"، بحسب الدكتورة فواز. فكان "تحريك السوق العقاري الجامد الهدف الأساسي من إعطاء قروض السكن عبر مصرف الإسكان التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية منذ عام 1996 وليس مساعدة المواطنين على شراء عقار للإقامة فيه وهو ما تشير إليه الإجراءات الصعبة للحصول على قرض الإسكان".
كما تضع فواز مشروع "إليسار" الذي طرح في تسعينيات القرن الماضي في إطار "استثمار الشواطئ جنوبي بيروت وليس إعادة توطين آلاف العائلات الجنوبية التي استقرت قرب هذه المناطق وأنشأت الأبنية فيها بصورة مُخالفة للقانون خلال الحرب الأهلية". وتؤكد فواز أن "رفض فرض الضرائب العقارية للحد من المضاربات مُستمر منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ما أدى إلى زيادة أسعار العقارات بشكل كبير".
وقد شجّع التعاطي الحكومي مع هذا الملف على توسع البناء غير الشرعي في هذه الأحياء مع كل حدث أمني وعسكري، لا سيما خلال حرب تموز عام 2006، وأحداث السابع من مايو/أيار 2008. وعادة ما يتحول قمع القوى الأمنية لمخالفات البناء إلى اشتباكات بين السُكان والدوريات الأمنية، وفي وقت تستمر فيه مخالفات البناء في المخيمات الفلسطينية الواقعة تحت سلطة الفصائل الأمنية منذ انتهاء الحرب الأهلية. وهي عوامل ترسخ "استقالة الدولة اللبنانية من مسؤولياتها الاجتماعية"، كما تقول فواز.
-------
اقرأ أيضا:
حال اليسار العربي4.. أمراض الدولة تصيب "الشيوعي" اللبناني