العشيرة في اللحظة العربية الراهنة (2-3) نهوض للتضامنيات
القبيلة من أقدم التنظيمات الاجتماعية في المعمورة، وهي سابقة لنشوء المدن وإمبراطوريات العالم القديم، مثلما هي سابقة لنشوء الدولة - الأمة الحديثة. أولى المدن، وأولى الإمارات نشأت من اتحادات قبلية، بتشكيل سلطة فوق قبلية. لكن القبائل خارج أسوار المدن ومراكز الإمبراطوريات بقيت فاعلة، والانقسام بين بداوة وحضارة دفع ابن خلدون إلى اعتبارهما شكلين للوجود البشري (العمران): الصحارى من هنا والمدن من هناك. وقد استثنى ابن خلدون العراق من نظريته عن صراع البداوة والحضارة، لأنه أرض مدن وأمصار، وفيه حاميات (جيوش إمبراطورية) قوية وزراعة مستقرة. لكن، إلى الجنوب منه ثمة الجزيرة العربية، جنة القبائل، أما العراق فكان جحيمها. وتتناسب قوة القبائل عكسياً مع جبروت الدولة. والعثمانيون أوقفوا الدورة الخلدونية بفضل البارود (السلاح الناري)، وتجاوزوا الدورة بعد دخول خطوط التلغراف وسكك الحديد ثم الطائرات.
ما عادت القبائل في بقاع الدولة بقادرة على الاستيلاء على السلطة، لأنها خضعت لسلسلة من التحولات منها:
أولاً، الاستقرار القسري: ترك الرعي والغزو إلى الزراعة.
ثانياً، تحول شيوخ القبائل من محاربين مستقلين إلى جامعي غلة الأرض (الريع) لأجل الدولة (نظام اللزمة أو الالتزام).
ثالثاً: بعد دخول نظام ملكية الأرض الصرف (الطابو)، تحول الشيوخ إلى ملاكين (إقطاعيين) وأبناء العشيرة إلى فلاحين محاصصين.
رابعاً: نتيجة ذلك، انهارت الوحدة الأبوية (البطريركية) للقبيلة، وتسارع الانهيار بفعل الهجرة للمدن ونشوء الاقتصاد الحديث.
خامساً: دخول الأيديولوجيات الحديثة قسمت العشائر أكثر بصراع فلاح ضد مالك أو صراع طبقة وسطى حديثة ضد ملاكين تقليديين "متخلفين".
ومن بقي من القبائل هو حمولات في الأرياف، وكلما فرغ الريف، وانتقلت الأقسام المهاجرة إلى المدن، فإنها كانت تميل إلى التكتل في أحياء متقاربة، والالتزام بالتضامن القبلي القديم (المشاركة في دفع الديات أو تقديم الهدايا في الأعراس وهلم جرا). إنها قبلية ثقافية، وليست تنظيما قبليا متماسكا.
قوة القبلية ضعف الدولة
يلج عالم الاجتماع العراقي، علي الوردي، عبر منهجية نسبية/وضعية، إلى استقراء المكونات السوسيولوجية للمجتمع العراقي، من حفر تاريخي، يشمل العهد العثماني في العراق كله. تحيلنا نقطة الاختيار هذه إلى جانب منهجي بالغ الأهمية: إن العمليات التاريخية التي تشكل الذات الاجتماعية، نظامها القيمي، وتصورها ذاتها، ونظمها الثقافية، وتنظيماتها الاجتماعية (محلات، أصناف، طرق صوفية، قبائل، ملائية، أفندية... إلخ)، لا تمتد إلى ما لا نهاية في الزمان. وإن الذاكرة الجمعية، في هذا العهد، لا تمتد إلى أبعد من عدة قرون.
يحدد الوردي سمتين أساسيتين في العراق: سيطرة المد البدوي، والصراع العثماني/الصفوي وما جرّه، بحسب تعبيره، من "نزاع طائفي شديد بين الشيعة وأهل السنة".
يؤكد الوردي، من دون وسائل قياس واضحة، أن المد البدوي في العهد العثماني، وهو الأخير، كان "أشد وطأة من جميع العهود السابقة"، ويعزو ذلك إلى تعاقب الفتوحات (اقرأ: الحروب). وتوقف العمران، "واضطر أهل المدن، من جراء ذلك، إلى الالتجاء إلى العصبية القبلية والقيم البدوية، من أجل المحافظة على أرواحهم وأموالهم"، مثلما اضطرت "العشائر الصغيرة إلى التكتل، أو الانضمام إلى اتحادات قبلية كبيرة". بتعبير آخر، إن نمو البداوة و/ أو هيمنة القيم البدوية تتناسب طرديا مع ضعف الدولة المركزية، وضعف الحواضر.
إذا كانت القبيلة، بحكم تركيبها بالذات، تنتج نظامها الدفاعي الذاتي، فإن الحواضر تحتمي بالأسوار عن الخارج، وتحتمي عناصرها من بعضها وراء أبواب "المحلات" (جمع: محلة) الموصدة، التي يقف على رأسها: الشقي (الفتوة المصري، أو القبضاي اللبناني). إنه قوة الحماية الذاتية للمحلة، وقوة العدوان الخارجي على المحلات الأخرى.
إن أشكال الالتحام (العصبية) التي يعرضها الوردي واقعية وحقيقية بلا مراء. لكنها، بقدر ما يتعلق الأمر بالمقارنة الخلدونية، تقف على طرفي نقيض مع التصور الخلدوني لعوامل الالتحام.
القرابة والأجهزة:
قامت الدولة الحديثة التسلطية في صعودها ومساعي استقرارها بأمرين:
أولاً، اعتماد عنصر القرابة لتجميع قوى كافية للسيطرة على أجهزة الدولة. وثانياً تحطيم المنظمات والروابط الاجتماعية المدنية الحديثة. عند الأزمة يلمس المجتمع ما يمكن الارتكاز عليه، فلا يجد سوى تضامنيات القرابة. وتعمد السلطة نفسها إلى الاعتراف بالقبائل، أو تحاول إحياءها.
هكذا، لم تعد القبيلة تلك الدويلة الصغيرة المستقلة بديرتها ومحاربيها، بل باتت نثاراً موزعاً في شتات المدن. وهذا التوزع قوي في البلدان شديدة التمركز (العراق، مصر، تونس، الجزائر، مثلاً) وضعيف في البلدان ضعيفة التمركز أو قريبة العهد بالمركزية (الخليج، اليمن، السودان المغرب). وما نهوض قبائل اليوم إلا بمثابة عودة من مقابر التاريخ. إنه نهوض للتضامنيات، تعويضاً عن القوى الحديثة الممزقة أو المخنوقة.