02 نوفمبر 2024
العصر الذهبي للانحطاط العربي
لبنان جبل في الشام. هكذا تُعرِّفه المراجع الجغرافية. ولا يمتاز هذا الجبل بأي خصوصية على الإطلاق، فهو مجرد مكان، مثل جبل عامل أو جبل حوران أو الجبل الأقرع. وما يميز هذه الجبال هو خصوصية الطوائف التي تجمّعت في سفوحها طلباً للحماية، كالشيعة في جبل عامل والموارنة في جبل لبنان والدروز في جبل حوران والعلويين في الجبل الأقرع. وكلمة "لبنان" كانت تطلق حصراً على منطقة في شمال لبنان، ولم تكن تشمل بقية المناطق، كالشوف وكسروان والمتن، إلا في حقبة قريبة جداً. لبنان، إذاً، قطعة من الشام، وهو تجويف في البطن السوري، كما يظهر في خريطة هذه البلاد. وحتى بعد أن رسم الفرنسيون تخومه في سنة 1920، ظل السوري يتردد على لبنان، من دون أن يتوقف عند نقطة الحدود، وكان عليه أن يرفع بيده هويته ليراها الشرطي اللبناني، ثم يتابع سيره. وحتى بعد أن فصل الفرنسيون لبنان عن سورية، بقيت مصالح كثيرة موحدة، كالنقد وسكك الحديد والجمارك وغيرها. وكان معظم اللبنانيين يعارضون الانضمام إلى لبنان، ويصرّون على الانضمام إلى الدولة السورية. هكذا كانت مواقف أهالي بيروت في مؤتمر الساحل في سنة 1937، وسكان جنوب لبنان في مؤتمر وادي الحجير (1920).
في رسائل إبراهيم طوقان إلى أخته فدوى، نعثر في العنوان البريدي على عبارة "بيروت – سورية". وكان ميخائيل نعيمة يقول إنه سوري من بسكنتا (انظر: مذكرات الأرقش) وكذلك جبران خليل جبران. ومعظم العائلات الكبرى في لبنان سوريّة لحاً لحاً مثل آل تويني وفرعون وإدة وشهاب وأبي اللمع وجنبلاط وأرسلان، وحتى البطريرك صفير فهو من قرية الصفيرة في حوران، وكذلك رفيق الحريري. أما مؤسس الكيان اللبناني، البطريرك إلياس الحويك، فهو سوري من نسل شلهوب العوام. والأموال السورية هي التي جعلت لبنان بلداً مزدهراً في خمسينيات القرن المنصرم. والآن، في خضم الأهوال العربية المستعرة، ها هي بيروت تستمتع بأموال السوريين، وتتمتع بنشاط مرموق في المسرح والغناء والسينما والفنون التشكيلية والدراما التلفزيونية، والسبب هو السوريون المهاجرون إلى لبنان. وهؤلاء هم مَن يدرب اللبنانيين، اليوم، على التمثيل، وعلى صناعة مسلسل جيد، بعد أن عجز اللبنانيون عن ابتكار مسلسل كوميدي أو درامي واحد ذي مستوى لائق. والمعروف أن بيروت كانت عاصمة الصحافة العربية في الحقبة التي انتهت في سنة 1975، لكن أكثر المجلات تأثيراً أسسها سوريون، أمثال يوسف الخال وأدونيس (مجلة "شعر") وتوفيق صايغ (مجلة "حوار")، وشارل أبو عضل (الأسبوع العربي)، حتى إن صانع أول مطبعة عربية في لبنان هو عبد الله الزاخر القادم من حلب. ومع أن كل شيء تغيّر في لبنان جذرياً، إلا أن كل شيء ظل، في الوقت نفسه، سورياً: الجذور والعمران والمصالح والثقافة. ومن العجب العجاب أن الوزيرين محمد المشنوق (وزير البيئة) ونهاد المشنوق (وزير الداخلية) متحدران من أبوين سوريين من حماه. ومع ذلك، فُرضت "التأشيرة" على السوريين الآتين إلى لبنان، بذريعة تنظيم النزوح السوري، ونُظمت في الأثر حملة عنصرية هاذية ضد انتشار السوريين "السود" في شارع الحمرا، دشنتها جريدة "النهار"، علماً أن عائلة تويني التي تملك "النهار" متحدرة من عشيرة المساعيد المسيحية في جبل الدروز في سورية. ولمزيد من الغرابة كان الاحتجاج السوري على هذا القرار بارداً وخافتاً.
لو كنت حاكماً في دمشق، وهذا من المحال، لأمرت السوريين جميعاً بمغادرة لبنان والعودة الفورية إلى سورية. حينذاك، سيتساقط القمل من رؤوس العنصريين في هذا البلد المبتلى بالعنصرية؛ مرة ضد الفلسطينيين ومرة ضد السوريين، والذي لا يتورع أبناؤه العنصريون عن الاستحذاء للغرب، وتعفير وجوههم بأتربة الإفرنج، والانحناء المتطامن لأي كولونيالي من أي مكان جاءت قدماه.
في رسائل إبراهيم طوقان إلى أخته فدوى، نعثر في العنوان البريدي على عبارة "بيروت – سورية". وكان ميخائيل نعيمة يقول إنه سوري من بسكنتا (انظر: مذكرات الأرقش) وكذلك جبران خليل جبران. ومعظم العائلات الكبرى في لبنان سوريّة لحاً لحاً مثل آل تويني وفرعون وإدة وشهاب وأبي اللمع وجنبلاط وأرسلان، وحتى البطريرك صفير فهو من قرية الصفيرة في حوران، وكذلك رفيق الحريري. أما مؤسس الكيان اللبناني، البطريرك إلياس الحويك، فهو سوري من نسل شلهوب العوام. والأموال السورية هي التي جعلت لبنان بلداً مزدهراً في خمسينيات القرن المنصرم. والآن، في خضم الأهوال العربية المستعرة، ها هي بيروت تستمتع بأموال السوريين، وتتمتع بنشاط مرموق في المسرح والغناء والسينما والفنون التشكيلية والدراما التلفزيونية، والسبب هو السوريون المهاجرون إلى لبنان. وهؤلاء هم مَن يدرب اللبنانيين، اليوم، على التمثيل، وعلى صناعة مسلسل جيد، بعد أن عجز اللبنانيون عن ابتكار مسلسل كوميدي أو درامي واحد ذي مستوى لائق. والمعروف أن بيروت كانت عاصمة الصحافة العربية في الحقبة التي انتهت في سنة 1975، لكن أكثر المجلات تأثيراً أسسها سوريون، أمثال يوسف الخال وأدونيس (مجلة "شعر") وتوفيق صايغ (مجلة "حوار")، وشارل أبو عضل (الأسبوع العربي)، حتى إن صانع أول مطبعة عربية في لبنان هو عبد الله الزاخر القادم من حلب. ومع أن كل شيء تغيّر في لبنان جذرياً، إلا أن كل شيء ظل، في الوقت نفسه، سورياً: الجذور والعمران والمصالح والثقافة. ومن العجب العجاب أن الوزيرين محمد المشنوق (وزير البيئة) ونهاد المشنوق (وزير الداخلية) متحدران من أبوين سوريين من حماه. ومع ذلك، فُرضت "التأشيرة" على السوريين الآتين إلى لبنان، بذريعة تنظيم النزوح السوري، ونُظمت في الأثر حملة عنصرية هاذية ضد انتشار السوريين "السود" في شارع الحمرا، دشنتها جريدة "النهار"، علماً أن عائلة تويني التي تملك "النهار" متحدرة من عشيرة المساعيد المسيحية في جبل الدروز في سورية. ولمزيد من الغرابة كان الاحتجاج السوري على هذا القرار بارداً وخافتاً.
لو كنت حاكماً في دمشق، وهذا من المحال، لأمرت السوريين جميعاً بمغادرة لبنان والعودة الفورية إلى سورية. حينذاك، سيتساقط القمل من رؤوس العنصريين في هذا البلد المبتلى بالعنصرية؛ مرة ضد الفلسطينيين ومرة ضد السوريين، والذي لا يتورع أبناؤه العنصريون عن الاستحذاء للغرب، وتعفير وجوههم بأتربة الإفرنج، والانحناء المتطامن لأي كولونيالي من أي مكان جاءت قدماه.