وعاد الخلاف بينهما إلى الاشتعال منذ إطلاق المملكة العربية السعودية عمليات "عاصفة الحزم" لضرب مواقع جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن. ووجهت الرياض أصابع الاتهام مباشرة نحو إيران، معتبرة أنها الداعم الأول والأساسي لجماعة "أنصار الله"، فيما ندّدت طهران، بدورها، على الفور بهذه العمليات العسكرية، واصفة الخطوة السعودية بأنّها عدوان خارجي على بلد مستقل، داعية الرياض إلى إيقاف ضرباتها.
اقرأ أيضاً (أيام "عاصفة الحزم" ثقيلة على إيران)
هذه الأزمة التي لم يصل عمرها إلى شهر، كانت كفيلة بإشعال فتيل ملف آخر وزيادة التدهور في العلاقات. وهاجمت إيران حادثة اعتقال شابين إيرانيين في السعودية، وقالت إن اثنين من مواطنيها كانا يهمان بمغادرة الأراضي السعودية قبل أسبوعين تقريباً مع مجموعة من المعتمرين الإيرانيين، فشككت السلطات السعودية في مطار جدّة بهما، وهو ما أدى إلى احتجازهما وتعرضهما لتفتيش جسدي مهين، كما ذكرت المواقع الإيرانية، والتي زعم بعضها أن الشابين تعرضا لتحرش جنسي قبل إطلاق سراحهما وعودتهما إلى بلادهما.
أطلقت هذه الحادثة الاحتجاجات والانتقادات والتنديدات في البلاد، وتجمع مئات الإيرانيين أمام مقر السفارة السعودية في طهران مرتين، وشاركهم في هذا الاحتجاج عدد من الطلبة اليمنيين الذين يدرسون في الجامعات الإيرانية، ورددوا شعارات رافضة لـ "عاصفة الحزم" من جهة، ومطالبة بمحاسبة أمن المطار السعودي.
ووصل صوت هؤلاء إلى المسؤولين الإيرانيين. ويوم الاثنين، أعلنت طهران عن تعليق كل رحلاتها الجوية ورحلات المعتمرين إلى السعودية، إلى حين محاسبة المسؤولين عن الحادثة.
جاء هذا الإعلان على لسان وزير الثقافة والإرشاد في الجمهورية الإسلامية علي جنتي، إذ إنه المكلف شخصياً من قبل الرئيس الإيراني بمتابعة هذا الملف منذ تفاعل قصة الشابين. وخرج المتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، في مؤتمر صحافي يوم الثلاثاء، ليؤكّد أنّ طهران تنتظر الردّ من السلطات السعودية التي وعدت بإنزال العقوبات الملائمة بحق أمن مطار جدّة، بحسب قوله.
وترسم هذه الحادثة فضلاً عن الموقف المتباين مما يجري في اليمن صورة توتر جديد في مسار العلاقات الثنائية بين طهران والرياض، ينعكس في غالبية المواقع الرسمية الإيرانية، التي تركز في هذه الأيام على انتقاد السياسات السعودية بالمجمل.
وكتبت وكالة أنباء "فارس" في هذا الصدد، أنّ الحادثة في مطار جدّة تذكر الإيرانيين بحادثة أخرى وقعت عام 1988، حين تظاهر حجاج إيرانيون في مكة المكرمة اعتراضاً على الموقف السعودي الداعم للعراق خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت لثماني سنوات، وأدت هذه التظاهرة إلى اشتباك بين هؤلاء الحجاج والأمن السعودي، أسفرت عن وقوع قتلى في صفوف الحجاج الإيرانيين، ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ومنذ ذلك الوقت، تشهد العلاقات محطات توتر؛ فإيران في زمن الشاه البهلوي، قبل انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، كانت تصرّ على الاحتفاظ بعلاقاتها الإيجابية مع السعودية، حيث شكّل الطرفان آنذاك جبهة واحدة ضدّ العراق المدعوم من الاتحاد السوفييتي، لكن الخلاف الذي أعقب انتصار الثورة في إيران، واحتداد الخلاف الإيديولوجي مع مرور الوقت زاد الأمور سوءاً.
ورغم كل محاولات التقارب في عهد الرئيسين السابقين أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، وخلق أجواء إيجابية بين البلدين، لكن دورتين رئاسيتين استمرتا ثماني سنوات للرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، كانتا كفيلتين بتأزيم الأوضاع، خصوصاً أنها مرحلة تزامنت مع عدد من المتغيرات الحاسمة؛ إذ إن طهران طورت برنامجها النووي ودخلت في صراع مع الغرب.
وبدأ الربيع العربي في عدد من البلدان في المنطقة، وتحول المشهد إلى صراع إيراني سعودي ولكن خارج أراضي البلدين، فتباينت المواقف في سورية والبحرين. وهذان الملفان استراتيجيان لكلا البلدين. ورغم أن حكومة الرئيس المعتدل الحالي حسن روحاني أرسلت إشارات إيجابية إلى الرياض أدت لتوقع حصول تقارب بينهما، لكن المستجدات عادت وأكدت أن هذه العلاقات الثنائية تبقى رهنا بالظروف الإقليمية.
ومع انطلاق "عاصفة الحزم" أخيراً، علت تصريحات المسؤولين الإيرانيين وازدادت حدّتها، ووصلت إلى مطالبة البرلمان الإيراني بتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وربما يكون السبب حادثة مطار جدة كما هو معلن، لكن الخلاف السياسي حول اليمن يلقي بظلاله الثقيلة على العلاقات الحالية بينهما. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن البرلمان قادر على إقرار قانون ينص على تخفيض التمثيل السعودي في إيران وحتى إقرار إغلاق سفارة هذا البلد.
وتسابق المسؤولون الإيرانيون في الردّ على المسؤولين السعوديين، وفي مقدّمتهم المرشد الأعلى علي خامنئي، والذي صعّد من تصريحاته وشبّه الخطوة السعودية في اليمن بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وقال صراحة إن الفشل والخسارة سيكونان من نصيب الرياض في النهاية. وأوضح مستشاره للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي، أمس، أن طهران لا تتدخل عسكرياً في اليمن، مؤكداً تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الإيرانية مرضية أفخم، والتي رفضت قبله تصريحات وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل التي تتهم طهران بالتدخل على الأرض في اليمن.
وصعّد المسؤولون العسكريون من تصريحاتهم إزاء الرياض، وكان آخرها تصريح لنائب رئيس هيئة الأركان مسعود جزائري، والذي قال أمس، إن اليمنيين قادرون على مواجهة الهجوم السعودي، معتبراً أن المملكة لن تكون قادرة على التخلص من الأزمة التي أشعلتها بنفسها في المنطقة. كما طالب المنظمات الدولية باتخاذ خطوات قانونية لمحاسبة الرياض التي "تجاوزت الحدود وتصرفت بعدوانية"، بحسب قوله.
كل هذه التصريحات ترسم مرحلة جديدة في العلاقات الإيرانية السعودية، قد لا تختلف عن مراحل كثيرة سبقتها، ولكن المراقبين يتوقعون أن تبقى هذه العلاقات رهناً بمسار المتغيرات والظروف الإقليمية.
اقرأ أيضاً ("عاصفة الحزم" تلغي زيارة رفسنجاني إلى السعودية)