العلم والعلموية وثقافتنا السياسية

29 ابريل 2015
+ الخط -

أقنع تقي الدين الشامي، المعروف بالراصد، السلطانَ العثماني مراد الثالث، ببناء مرصد إسطنبول في عام 1850، من أجل تصحيح التقويمات الفلكية العائدة إلى أولوج بك. وما أن أنجزت المهمة، حتى دمرت البحرية التركية المرصد، بأمر السلطان وبتحريض من مفتي السلطنة، شمس الدين قاضي زاده. وسواء كانت حجة الهدم أخطاء فلكية، تسببت في خسارة معركة، أو أن المرصد بات نذير شؤم على السلطنة، أو مزعزعاً قناعات دينية، فإن تدميره سيعكس تلك الذهنية الرافضة مناهج البحث العلمي، حتى أن شاعر البلاط، علاء الدين منصور، لم يتردد في الثناء على هدم صرح علمي كلف السلطنة عشرة آلاف قطعة ذهبية.

نهضت أوروبا بفضل الكشوف العلمية والجغرافية، وازدادت الهوة بين غرب وشرق، فبدا الأخير عاجزاً عن اللحاق بالحداثة، فمضى يتلقف نتائجها، ما أدى إلى المحاكاة والتقليد، والقفز إلى نهايات العلوم من دون توفير أرضية، تتيح الاستفادة منها، بربطها بالواقع الاقتصادي والاجتماعي. فحين أراد سليم الثالث (1761- 1808) منافسة التقنية الغربية في صهر المدافع، اضطر إلى إدخال الدراسات الحديثة في الجبر والحساب والمثلثات والصناعات المعدنية وغيرها، فاعتمد على أساتذة فرنسيين وسويديين، واكتفى بترجمة كتب المهندس الفرنسي، فوبان، عن فنون التحصين العسكرية، لكنه لم يحفل بتشجيع البحث العلمي في هذه العلوم. وكذلك كانت الحال في مصر مع محمد علي باشا (1769- 1849)، حين عمد إلى تأهيل خبراء في الطوبوغرافيا للتنقيب عن الذهب والفحم، من دون الالتفات إلى تشجيع أي بحوث علمية، تتعلق بعلوم الجيولوجيا الأصلية.

ومنذ مرحلة ما بعد الاستقلال، كان التحديث بالنسبة للدول العربية مسألة ملحة، توفير البنى التحتية والنظم التنموية والإدارية كانت ضرورية، وكان تأهيل الكوادر والخبراء في الخارج، أو استقدام خبراء أجانب لتنفيذ مشاريع والإشراف عليها سياسة أساسية، أما البحث العلمي فلم يكن أولوية. فاعتمدت خطط التنمية على استيراد أحدث ما أنتجته أسواق التكنولوجيا من معدات وأجهزة ونظم، مع تجاهل أسسها الفكرية الفلسفية التي استندت إليها هذه الإنجازات العلمية. وفي ظل هذه العلموية، غابت رؤية تاريخية لسيرورة التطور التقني والمعلوماتي، ما أدى إلى الافتتان بالتكنولوجيا، والعجز عن استيعاب المضامين العلمية للظواهر الإنتاجية وظواهر التقدم الاجتماعي، من خلال المناهج العلمية.

وبعد أن كان العلم في الغرب يتعلق بأفراد منعزلين، أو ببعض الجماعات المغلقة، أصبح منذ نشوء الدولة الحديثة ظاهرة اجتماعية، احترافيّاً تقوده المؤسسات. وأصبح البحث العلمي موضوعاً لتنظيم شامل، بإشراف الجامعات والمراكز الوطنية للأبحاث وأكاديميات العلوم وأجهزة الدولة للسياسة العلمية، الممثلة بوزارة مكلفة تدبير البحث العلمي، وباتت مراكز الأبحاث تلعب دوراً أساسيّاً في صنع القرار ورسم السياسات التنموية. ومع نهايات القرن العشرين، أصبح الاقتصاد العالمي قائماً على المعرفة التي تسفر عنها البحوث العلمية المدنية والتكنولوجية، وتحولت المعرفة إلى سلعة، وأصبحت قدرة الدولة تتمثل في رصيدها المعرفي. ومع إطلالة القرن الحادي والعشرين، كان العالم ينفق على البحث العلمي ما يزيد على 500 بليون دولار سنويّاً. بلغت حصة الولايات المتحدة الأميركية من هذا الإنفاق حوالي 32%، واليابان 24%. ويعمل في مجالات البحث العلمي حوالي 3.4 ملايين باحث، تركز 66% منهم في الدول الأوروبية السبع الرئيسية. أما في الدول العربية، فتراوحت حصة الفرد من الإنفاق على البحث العلمي ما بين 1- 5 دولارات فقط، بينما هي في الولايات المتحدة حوالي 700 دولار، وفي أوروبا 600 دولار. أما نسبة الباحثين بالنسبة لعدد السكان فكانت 136 باحثاً لكل مليون مواطن، وهي نسبة هزيلة مقارنة بالدول المتقدمة.

تلعب الجامعات دوراً في ربط البحث العلمي بالتعليم، على مستوى تكوين الباحثين، والتكوين المهني المتخصص. لكن الجامعات العربية ما زالت تركّز على الجهد الأكاديمي من دون البحث العلمي الذي، غالباً، يخدم أغراضاً أكاديمية بالدرجة الأولى، أو مسائل متعلقة بترقية أعضاء الهيئة التدريسية. وغالباً ما يكون الدافع للحصول على درجات في الدراسات العليا تحسين الوضع المهني والمركز الوظيفي والاجتماعي، حيث تغيب الاستمرارية البحثية لدى خريجين كثيرين في ظل مناخ لا يشجع على مواصلة البحث. ومع ضعف تمويل الجامعات، بات البحث العلمي ضحية أولى لأي سياسة تقشفية، تقوم بها إدارة الجامعة.

ومع انتشار مراكز الأبحاث منذ التسعينات في العالم العربي، هناك عوامل ذاتية وموضوعية عديدة حالت دون قدرتها على توفير المناخ البحثي اللازم، فلا يزال تمويل البحث العلمي رهناً بالتمويل الحكومي، الذي علاوة على ضعفه، يتعرض كثير منه للهدر بسبب الفساد وسوء الإدارة والبيروقراطية. أما القطاع الخاص فلم يقتنع بعد بجدوى الاستثمار في البحث العلمي، حيث استعجال الربح يفوق القناعة باستثمار طويل الأمد. وتصب استثناءات كثيرة في خانة الترويج الإعلاني، أو الرياء الاجتماعي تحت عنوان العمل الخيري. وفي الوقت الذي تدعو فيه مراكز أبحاث إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة للتخلص من المركزية والبيروقراطية، فقد كانت هي نفسها بحاجة إلى ذلك، إذ هيمن على بعضها أسماء أصحابها وتوجهاتهم وتفردهم. وقلما وفر التمويل الخارجي الموضوعية المطلوبة، أو أغضب السلطات المحلية، ما انعكس سلباً على استمرارية بعض هذه المراكز وعملها. وفي مناسبات عدة، تدخلت السلطات لمنع المضي في بحوث معينة، أو لمنع نشر نتائجها، لاسيما البحوث المتعلقة بالعلوم الإنسانية، بحجة حساسيتها الاجتماعية أو تأثيرها على الوضعين، السياسي والأمني. ناهيك عن تسخير الأنظمة السياسية بعض تلك المراكز، لتعزيز سلطاتها وتبرير أيديولوجياتها.

لا يزال المناخ السياسي الذي يستبدل العلموية بالعلم، ونهايات العلوم بالبحث العلمي، راسخاً. فحتى الآن، حالت ثقافة السياسة التقليدية دون بناء سياسة ثقافية، تقود استراتيجيات التنمية، متخذة من البحث العلمي حجر زاوية في التنمية البشرية والمجتمعية، بحيث يصبح العلم ومناهجه أدوات للإنتاج، مما أدى إلى إعاقة التنمية وفشل التحديث، وسيطرة النزعة الاستهلاكية ماديّاً ومعنويّاً. وليس مستغرباً أنه في وقت تتهافت فيه المجتمعات العربية على اقتناء أحدث وسائل التكنولوجيا، يسود التفكير اللاعلمي، الغيبي والخرافي، الذي كان مصدراً أساسياً للتطرف بأشكاله كافة. واليوم، يتوفر لهذا الفكر بفضل وسائل التكنولوجيا الحديثة، لاسيما في مجال الاتصالات والمعلوماتية، سهولة وسرعة في الانتشار.

في عام 1800 عبّر وليم آتون، القنصل البريطاني في السلطنة العثمانية عن انطباع تكّون لديه عن العرب والمسلمين، كما عايشهم في حينه، فوصفهم بأنهم "يحبون التجارة مع الذين يقدمون لهم سلعاً ثمينة وأشياء مفيدة، موفرين على أنفسهم مشقة صنعها". فهل تغير حالنا، ونحن الآن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين؟