فتح جيل الثورة السورية أعينه في بلاد كانت تعيش ظروفًا اقتصادية تعيسة، نتيجة حصار استمرّ نصف عقد الثمانينيات بسبب السياسات التي وُصفت بالمقاومة والممانعة للنظام الحاكم في البلاد، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وأمينه العام القطري حافظ سليمان الأسد، وفي تلك الحقبة كان الاقتصاد اشتراكيًا وكان التداول بالعملات الأجنبية محرّمًا ولم يكن السوريون يعرفون شكل الدولار أو غيره إلا من جيوب المغتربين الذين يزورون البلاد في الإجازات.
بدأ التعامل بالليرة السورية عام 1948، وهو تاريخ انفصال مصرف سورية ولبنان المركزي ليصبح لكل من البلدين مصرِفه الخاص، وكانت تسمّى قبل ذلك التاريخ بالليرة السورية - اللبنانية، ومضى خمسون عامًا منها 27 في ظل حكم حافظ الأسد لم تحمل الليرة السورية صورة أي شخصية سياسية أو وطنية، ولم تحمل أيضًا صورًا لزعيم البلاد الأوحد إلا في عام 1997 تاريخ إصدار ورقة الألف ليرة والتي حملت صورة الأسد الأب.
في حقبة حزب البعث تغيّر شكل الليرة مرارًا، كما تغيّرت قطعها النقدية، حيث كانت الليرة الواحدة تُطبع على الورق والقطع المعدنية أيضًا، أجزاؤها من ربع فرنك إلى خمسين قرشًا، وكانت تساوي ثلاث دولارات تقريبًا وقتئذٍ، أما في عام 1997 أصبحت القطع المعدنية هي فئات الليرة والخمس ليرات والخمس وعشرين ليرة، وتم تنسيق الأجزاء الأقل، كما تم طباعة ورقة الألف ليرّة للمرة الأولى وكانت تلك السنة التي تجاوز فيها الدولار حاجز 40 ليرة للمرّة الأولى في تاريخه، كما ارتفع سعر غرام الذهب من حدود 300 إلى حدود 500 ليرة.
كل السنوات التي سبقت سنة 97 وحتى تاريخ بداية حكم الأسد في 1970، كانت الصور على الليرة السورية لشخصيات تاريخية؛ حيث حملت ورقة الخمس وعشرين ليرة المطبوعة صورة صلاح الدين الأيوبي، وورقة الخمسين صورة لتمثال من آثار مدينة إيبلا التاريخية، والمائة صورة الملكة زنوبيا، والتي كانت تشبه إلى حدّ ما صورة الفنانة رغدة التي قامت بدورها في مسلسل العبابيد.
ورقة مئتي ليرة لم تكن موجودة، وحملت عند طباعتها صورة نصب صلاح الدين المثبّت في مدخل سوق الحميدية، أما ورقة الخمسمائة ليرة فحملت صورة تمثال رأس شمرا من مدينة أوغاريت الأثرية في الساحل السوري.
لم يعرف السوريون قبل ورقة الألف ليرة، عملة حملت صورة زعيم أسوة بالعراق أو الأردن أو دول الخليج، وحيث لم يكن الأمر مستهجنًا جدًا لدى الشارع السوري يبدو أنه كان مستهجنًا لدى رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي أتحف الملايين بورقة الألفي ليرة التي صدرت قبل أيّام قليلة في دمشق، مع تسجيل الليرة السورية لـ 500 ليرة مقابل دولار واحد، أي أنها تساوي فقط أربعة دولارات، رغم أنها حملت صورة الأسد شخصيًا.
مع بداية توطيد بشار الأسد لسلطته بعد عام 2003 بدى أن "السفّاح" الذي وُصف حينها بالرئيس الشاب لديه شوفينية عالية، غطاها بصورة الرئيس الحضاري وطبقها بمسح رموز المجتمع وتسطيح تفكيره، فإذا تجاوزنا هبوط مستوى العمل الفني والموسيقي منه حصرًا، وعدم تمكين دور العلماء والكتاب والمفكّرين في المجتمع، وبقينا في موضوع العملة، فقد تغيّرت العملة السورية في عهد الأسد عدّة مرّات وكان عنوان المرّات جميعها مسح صور جميع الشخصيات التي وجدت على العملة السورية بما فيها صورة والده عندما غيّر شكل ورقة الألف ليرة منذ عامين.
في عهد بشار الأسد أصبحت العملة تحمل صور آثار وأماكن طبيعية في سورية، كما تحمل صور الحقول والمعامل، مسح الجميع فلم يعد هناك وجود لا لصلاح الدين ولا فيليب العربي إمبراطور روما المولود في مدينة شهبا جنوب سورية، لقد مسح بشار أي شخصية يمكن لأي طفل سوري أن يسأل عنها بعفوية عندما يتلمس عملة بلاده ويقول من هذا؟ مسح الجميع وختم مسيرة التطوير والتحديث التي بدأها عام 2000 بورقة ألفي ليرة تحمل صورته، يبدو أن الرقم 2000 له رمزية عند الأسد الصغير.
هذا المسح لم يكن في العملة فقط؛ فالاقتصاد السوري مُسح تمامًا، الحياة الثقافية مسحت، والسياسية كانت ممسوحة أصلًا، الأسد بالأمس وبنظر معارضيه الذين غرّدوا على التواصل الاجتماعي كان يحمل ضوءاً أخضر للبقاء على رأس السلطة في سورية، وجاء وضع صورته على العملة الجديدة كرسالة قوّة وتحدّ، إلا أن مسيرة التغيير في العملة السورية لا تنمّ عن أن أي رسالة جديدة من النظام الحاكم، سوى رسالته الأولى التي بعثها للمواطنين السوريين العزل في عام 2011 " الأسد أو لا أحد".