13 فبراير 2022
العنف إطاراً تفسيرياً للحالة العربية
بعد انتكاسة الحراك الديمقراطي السلمي في العالم العربي، بات العنف هو الملمح الرئيسي للسياسة في أكثر من بلد. ولم يعد العنف، بصوره المادية والرمزية والفوتوغرافية كافة، مجرد استثناء على السياسة، بل بات هو الأصل والمهيمن على تفاعلاتها وصورتها العامة. كما لم يعد اللجوء إليه قاصراً على جماعاتٍ أو تنظيمات معينة، وإنما بات الأداة الرئيسية للدولة السلطوية العربية، من أجل تأكيد هيبتها وسلطانها، فقد تراجعت الشرعية التقليدية لهذه الدولة، سواء بشكلها التاريخي ممثلاً في تحقيق الاستقلال، منتصف القرن الماضي، أو بشكلها الديني ممثلاً في احترامها المرجعية الدينية للأمة والمجتمع، أو بشكلها البيروقراطي ممثلاً في تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. وبات المصدر الوحيد والأساسي لشرعية هذه الدولة هو احتكارها وسائل العنفين، المادي والمعنوي، وأدواتهما. أي أنها شرعية مستلَبة قائمة على القمع والإكراه بحكم الأمر الواقع، وليست شرعية منبعها التوافق أو الرضا والقبول. وبهذا المعنى، تصبح شرعية قائمة على ما هو نقيض لها، أو كأنها شرعية اسماً وليست فعلاً. والشرعية اصطلاحاً تنطوي على حد أدنى من التعاقد بين طرفين، منبعه التزام كل طرف بشروط هذا التعاقد، واحترام واجباته ومسؤولياته من أجل تحقيق مصالحهما، وذلك في ظل الاحتكام إلى مؤسساتٍ يمكنها ضبط علاقة التعاقد.
ولما كانت الدولة العربية قد نشأت في الأصل على أساس الوصاية والهيمنة على المجتمع، فقد استفردت هي بتحديد قواعد التعاقد الذي منحها كل الحقوق، وجعل المجتمع رهينةً لها ولسلطانها ولقوتها. وفي المرة الوحيدة التي حاول هذا المجتمع أن يغير قواعد التعاقد، بحيث يصبح شريكاً وليس تابعاً، كما دلّت على ذلك موجة الربيع العربي، تم الانقلاب على هذه القواعد، وقمع كل من يحاول تغييرها. أي أنه حدث ارتداد من شرعية التعاقد إلى شرعية
التغلّب والقهر من خلال استخدام العنف. وكان بديهيا ومنطقياً، وإنْ لم يكن مقبولاً، أن يلجأ المجتمع للعنف، من أجل التخلص من هذه الشرعية المزيفة والمفروضة عليه بحكم القوة وليس الرضا.
ومن هنا، يمكن تفسير أسباب ظهور جماعات العنف وتنظيماته، سواء المدفوعة بتفسيرات دينية متوهمة ومختزلة، أو التي تحركها الرغبة في التمثيل والمشاركة في السلطة. ويصبح لجوؤها إلى العنف تأكيداً على وجودها الفعلي، ودليلاً مادياً على قدرتها على منافسة الدولة في مجالها الخاص باحتكار العنف. أي أن لجوء الدولة السلطوية إلى العنف من أجل تأكيد حضورها وإثبات هيمنتها، وذلك على حساب المجالات الأخرى للسياسة، كالمشاركة والتمثيل، يدفع خصومها إلى مجابهتها بمنطقها وأدواتها ومصادر شرعيتها. وإذا كان هذا يصحّ على البلدان التي تعاني فقراً في مواردها الاقتصادية والمالية، كما هي الحال في اليمن وسورية والأردن ومصر، فإنه لا ينطبق في حال دول غنية بمواردها الطبيعية، مثل ليبيا والجزائر والسعودية، لكنها ترزح تحت شبكةٍ واسعة من البيروقراطية الفاسدة والمتحكمة في كل شيء. وفي مقدور هذه الفئة الثانية تأسيس شرعية حقيقية، إن التزمت بقواعد اللعبة الديمقراطية، حيث لديها من الموارد ما يكفي لتأسيس شرعيةٍ مبنيةٍ على تحقيق الرضا والقبول، من خلال توزيع عادل للموارد، وتمثيل متوازن للجماعات والفئات المختلفة، سواء تم ذلك بطرق تقليدية من خلال العرائض والمجالس، أو تم عن طريق التمثيل والانتخابات.
ومنبع العنف لدى الدولة السلطوية العربية ليس فقط الرغبة في استمرار الهيمنة والسيطرة على المجتمع، وإنما أيضا انطلاقاً من إيمانها وإيمان من يهيمن عليها بأحقيتها في الدفاع عن نفسها ووجودها حقيقة أنطولوجية موجودة ومطلقة، وأسمى من المجتمع. بكلماتٍ أخرى، لا يرى السلطويون العرب في استخدام العنف، باعتباره بديلا للسياسة، استثناء، وإنما هو القاعدة والوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه السياسة في بلداننا. لذا، هم لا يتوقعون أن يراجعهم أو يسائلهم، فضلاً عن أن ينافسهم، أحد في الموضوع. وإذا حدث، فإن اللجوء إلى العنف يصبح بمثابة مهمة مقدسة، لا يجب أن يحول أحد عن القيام بها. وهو عنفٌ ليس فقط خارج إطار القانون، وإنما أيضا متجاوزاً له ومتعالياً عليه، وذلك فيما يسميه المفكر الإيطالي، جورجيو أغامبين، "العنف المقدس" الذي يقع ضمن حالة الاستثناء التي تنشئها الدولة الحديثة، من أجل الحفاظ على وجودها وبقائها. وهو استثناء تحول في دولنا العربية إلى قاعدة ونظام مستقر، تُعرّف من خلاله السياسة وطرق ممارستها والاشتغال بها. لذا، ثمة ارتباط عضوي بين وجود الدولة العربية الحديثة والاستخدام غير المشروط وغير المنضبط للعنف، باعتباره أمراً ضرورياً وحيوياً لممارسة السياسة، بل هو شرط لها.
ولما كانت الدولة العربية قد نشأت في الأصل على أساس الوصاية والهيمنة على المجتمع، فقد استفردت هي بتحديد قواعد التعاقد الذي منحها كل الحقوق، وجعل المجتمع رهينةً لها ولسلطانها ولقوتها. وفي المرة الوحيدة التي حاول هذا المجتمع أن يغير قواعد التعاقد، بحيث يصبح شريكاً وليس تابعاً، كما دلّت على ذلك موجة الربيع العربي، تم الانقلاب على هذه القواعد، وقمع كل من يحاول تغييرها. أي أنه حدث ارتداد من شرعية التعاقد إلى شرعية
ومن هنا، يمكن تفسير أسباب ظهور جماعات العنف وتنظيماته، سواء المدفوعة بتفسيرات دينية متوهمة ومختزلة، أو التي تحركها الرغبة في التمثيل والمشاركة في السلطة. ويصبح لجوؤها إلى العنف تأكيداً على وجودها الفعلي، ودليلاً مادياً على قدرتها على منافسة الدولة في مجالها الخاص باحتكار العنف. أي أن لجوء الدولة السلطوية إلى العنف من أجل تأكيد حضورها وإثبات هيمنتها، وذلك على حساب المجالات الأخرى للسياسة، كالمشاركة والتمثيل، يدفع خصومها إلى مجابهتها بمنطقها وأدواتها ومصادر شرعيتها. وإذا كان هذا يصحّ على البلدان التي تعاني فقراً في مواردها الاقتصادية والمالية، كما هي الحال في اليمن وسورية والأردن ومصر، فإنه لا ينطبق في حال دول غنية بمواردها الطبيعية، مثل ليبيا والجزائر والسعودية، لكنها ترزح تحت شبكةٍ واسعة من البيروقراطية الفاسدة والمتحكمة في كل شيء. وفي مقدور هذه الفئة الثانية تأسيس شرعية حقيقية، إن التزمت بقواعد اللعبة الديمقراطية، حيث لديها من الموارد ما يكفي لتأسيس شرعيةٍ مبنيةٍ على تحقيق الرضا والقبول، من خلال توزيع عادل للموارد، وتمثيل متوازن للجماعات والفئات المختلفة، سواء تم ذلك بطرق تقليدية من خلال العرائض والمجالس، أو تم عن طريق التمثيل والانتخابات.
ومنبع العنف لدى الدولة السلطوية العربية ليس فقط الرغبة في استمرار الهيمنة والسيطرة على المجتمع، وإنما أيضا انطلاقاً من إيمانها وإيمان من يهيمن عليها بأحقيتها في الدفاع عن نفسها ووجودها حقيقة أنطولوجية موجودة ومطلقة، وأسمى من المجتمع. بكلماتٍ أخرى، لا يرى السلطويون العرب في استخدام العنف، باعتباره بديلا للسياسة، استثناء، وإنما هو القاعدة والوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه السياسة في بلداننا. لذا، هم لا يتوقعون أن يراجعهم أو يسائلهم، فضلاً عن أن ينافسهم، أحد في الموضوع. وإذا حدث، فإن اللجوء إلى العنف يصبح بمثابة مهمة مقدسة، لا يجب أن يحول أحد عن القيام بها. وهو عنفٌ ليس فقط خارج إطار القانون، وإنما أيضا متجاوزاً له ومتعالياً عليه، وذلك فيما يسميه المفكر الإيطالي، جورجيو أغامبين، "العنف المقدس" الذي يقع ضمن حالة الاستثناء التي تنشئها الدولة الحديثة، من أجل الحفاظ على وجودها وبقائها. وهو استثناء تحول في دولنا العربية إلى قاعدة ونظام مستقر، تُعرّف من خلاله السياسة وطرق ممارستها والاشتغال بها. لذا، ثمة ارتباط عضوي بين وجود الدولة العربية الحديثة والاستخدام غير المشروط وغير المنضبط للعنف، باعتباره أمراً ضرورياً وحيوياً لممارسة السياسة، بل هو شرط لها.