في 14 يونيو/ حزيران 1877، بدأ التاريخ الفعلي للموسيقى الحديثة، أو أقلّه هذا ما يوثّقه المؤرّخون. ففي هذا اليوم قدّم توماس أديسون في أستراليا اختراعه الجديد، أي آلة الفونوغراف، أو الغراموفون، وهي أقدم آلة تسجيل صوتي.
ورغم أنّ الهدف الفعلي من الاختراع لم يكن تسجيل الموسيقى والاستماع إليها، لكن هذه الآلة التي كانت تحفظ الأصوات، وتكرِّرها بشكل غير نقي في البداية، يعود إليها الفضل بتشكيل وجه الموسيقى الحديث.
وسنستعرض بهذه المناسبة أبرز التغييرات التي طرأت على الموسيقى بسبب اختراع الغراموفون:
موسيقى ملائمة للوحدة
قبل اختراع الغراموفون كان الاستماع إلى الموسيقى هو فعلٌ اجتماعيٌّ، فكانت الموسيقى تُعزف غالباً في القاعات العامة التي يرتادها المئات. حتى الموسيقى الأقل احترافية، كانت بدورها فعلاً اجتماعياً مشابهاً، فتجتمع العائلات أمام العازف أو المغني في السهرات المنزلية أو في النزهات الخارجية لتستمع إلى ما يقدّمه. لكن بعد اختراع الغراموفون، تحول الاستماع للموسيقى إلى فعل فردي، فبات من الممكن أن يتمّ ذلك في غرفة مغلقة، وهو الأمر الذي ساهم بإنتاج أنماط جديدة من الموسيقى وأغانٍ شاعرية تلائم حالة الوحدة.
الموسيقى حسب الطلب
مع اختراع الغراموفون تحوّلت الموسيقى أيضاً إلى سلعة، وأصبحت أكثر تنوعاً وازداد إنتاجها بحسب الرغبة والطلب. ذلك لا يعني طبعاً أن الجمهور لم يلعب دوراً في تطوير الموسيقى قبل الثورة الصناعية، لكن رغبة المستمعين كانت تتمثل بالذائقة العامة، التي غالباً ما توجه الإنتاجات في كل عصر نحو أشكال محددة ومتشابهة، لتبدو الموسيقى كأنّ لها ملامح مختلفة في كل عصر سبق الثورة الصناعية، كما هي الحال في موسيقى عصر الباروك، وما تبعها من كلاسيكية ورومانسية.
لكن بعد الغراموفون، بات التنوع الموسيقي هو سمة العصر. وفي العقد الثاني من القرن العشرين بدأ ذلك يؤثر على شكل المجتمع والعلاقات الاجتماعية فيه، فبات الناس يصنفون بعضهم من خلال الأنماط الموسيقية التي يسمعونها؛ فهناك جمهور للأوبرا، وآخرون يميلون للجاز وغيرهم للبلوز.
مدة الأغنية 3 دقائق
قبل الغراموفون، كانت المقطوعات الموسيقية غير محددة لناحية الوقت، وقد تمتد لساعة كاملة تقريباً. وهو ما يبدو متناسباً مع شكل الموسيقى التي كان تؤلَّف لتُعزَف في عروض سيحضرها الناس في قاعات مخصصة لها. ثمّ في سنة 1895، اخترع إميل برلينر الأسطوانات الموسيقية المسطحة، ليكمل ما قام به أديسون، الذي اعتمد على أقراص دائرية. وكانت الأسطوانات الأولى تحتوي على شريطين تسجيليين، كل منهما على وجه، ومدة الواحد منهما 3 دقائق، وذلك ما جعل الموسيقيين يتقيدون بالتوقيت وينتجون أعمالاً موسيقية مدتها 3 دقائق. وقد استمر هذا العرف حتى بعد أن تطورت صناعة آلات التسجيل والأقراص المدمجة، فلا تزال معظم أغاني البوب حتى اليوم مدتها 3 دقائق.
أثر الغراموفون على الآلات الموسيقية
كانت الفونوغرافات المبكرة ذات دقة صوت رديئة، والتسجيل عليها لم يكن يتم من خلال ميكروفونات، بل من خلال عملية ميكانيكية غريبة، حيث يعزف الموسيقيون على قرن ضخم، فتقود موجات الصوت إبرة حفر في الشمع. وهذه الآلية جعلت أصوات بعض الآلات الموسيقية تبدو فظيعة. لذلك قام المنتجون بتغيير الآلات، فاستبدلت فرق موسيقى الجاز براميلها بالأحجار والكتل الخشبية. وقد تم الاستغناء عن آلة موسيقية كلياً، فتخلى الملحنون عن آلة الـ"كليزمير"، لأن الإبرة الرقيقة في الغراموفون لا يمكن أن تحرك نغماتها، كما تم إجراء بعض التعديلات على آلة الكمان لتناسب آلة الغراموفون