28 مايو 2017
الفاشيّة الصغرى
هي الأخت التافهة للفاشيّة الشمولية الكبرى التي تطمح إلى التغلغل في كل الدولة، سياستها واقتصادها ومجتمعها وأفرادها وحربها وسلمها. الفاشيّة الصغرى مزاج اجتماعيّ موسميّ، يبزغ بين وقتٍ وآخر في دول عربية غير شمولية، مجتمعاتها لا تعيش حياة محورها العسكر في الظروف الاعتيادية، لكنها تحتفظ ضمن تكوينها العميق بنواة صغيرة للفاشية، هو ما تنجح الدولة العربية في تكوينهِ، حيثما تفشل في بناء فاشيّة كبرى، فتكتفي منها باقتباساتٍ وظيفية محدودة: التعصّب القومي، سحق الفرد، رفض الديموقراطية، الولع بالذكورة والفتوّة والعسكرة والكتائبية.
موسم ازدهار الفاشية الصغرى هو الحرب، بكلّ أشكالها وطبقاتها. الحرب على دولة أخرى، الحرب ضد فصيل داخلي، الحرب في صفّ دولة أخرى ضد فصائلها الداخلية، حرب الدولة العربية ضد مواطنيها، في أجواء الاستنفار الأمني، على ضفاف التعبئة والطوارئ. لكن الفاشية التافهة أضعف من أن تكون محرّك الحرب أو دافع الاستنفار، هي على الأكثر قائدة فريق التشجيع والهتاف، تشجّع المجتمع على أخذ حروبهِ بخفّة، الانزلاق إليها بلا تفكير، تخلق مناخاً للتعامل مع الحرب كـ"ترند"، يشتهي الجميع الانغماس فيه، مثل ثيمات الموضة الصاعدة. في لحظة الفاشية الصغرى، يستولد المجتمع الملتاث أساليب تحوّل الحرب إلى مبعث بهجة.
يخترع مصممو المجوهرات حُليّاً للنساء على هيئة طائراتٍ حربية، تُفتتح معارض الأزياء بفستان سهرة مصمم من القماش الخاكي، يبتكر الحلواني نوعاً من الكعك ويطلق عليه اسم أفتك الأسلحة، ويعلّق بائع الشاورما إعلاناً عن أحدث إصداراته: "شاورما الصاروخ". تجتهد معلمات المدارس في الاحتفال مع التلاميذ الصغار بالحدث، حيث يحرصنَ على جعلهم يحبون الحرب بلا حرصٍ على جعلهم يفهمونها، ويختلق التعليم المناسبات "التربوية" التي تفتح المجال لسيّال من الأنشطة اللا صفّية (وغير الحرّة) حول أمجاد الحرب الوطنية وفضائلها، وتساهم الجمعيات "الخيريّة" بكل ابتهاج وفخر في الاحتفال العامّ. يتوقف المجتمع عن القلق، ويتعلم
كيف يحبّ القنبلة، على طريقة المخرج ستانلي كوبريك، وهذا كله في الظلال الوارفة لزيزفون الآلة الإعلامية الهادرة والكاسحة في اتجاهٍ واحد. ما وظائف الفاشية الصغرى؟ لماذا تحتاج دول يحتكر قرار الحرب والسلام فيها أربعة أو خمسة أشخاص إلى هذا النوع من الفاشية؟ قطعاً، ليس لتوفير الدعم لقرار الحرب والسلام، فهو قرار مأخوذ فيما فوق المجتمع ومحسوم سلفاً، وليس لشرعنة الحرب التي قد تتوفر على أسباب عقلانية، لا تحتاج إلى مساندة ربات البيوت وأطفال المدارس وقوالب الكعك، لكن الفاشية مهمة لنزع هذه العقلانية عن الحرب، وظيفتها أن ترفع الحروب الوطنية إلى مرتبةٍ تعلو فيها على القياس والتقييم ومراجعة الأداء والنقد، بوصفها من أخطر الأعمال البشرية التي تخطئ أكثر مما تصيب، لتتحول الحرب الوطنية ورموزها من أضخمها إلى أضألها إلى مقدّساتٍ لا تقبل المساءلة، وأخبارها لا تقبل التدقيق، وأبطالها فوق المحاسبة، ونتائجها لا تُردّ.
وظيفة الفاشية التافهة أن تجتذب ذاك النوع من الناس الذي يفرح بالحرب، لكنهُ لا يهتمّ بالسياسة، فهو الجمهور المثالي الذي سيوفّر أجواء احتفالٍ صاخبة، لكنهُ لن يبالي بالتفاصيل، ولا بالمآلات. وتحوّل الفاشيّة الصغرى المثقّف العربي إلى "داعية"، ويتغيّر قاموسه، مؤقتاً، فيُسمي القطيع "تلاحماً واصطفافاً"، ويُسمّي التعددية والحرية "الفُرقة وهدم وحدة الصف"، ويسمي كُلّ من خارج تيار الفاشية بـ"الخونة"، بلا أدنى شعورٍ بالعيب والارتكاس. تُسكر اللحظة الفاشية المجتمع، كما كان قادة الحرب العالمية الأولى يحرصون على إبقاء الجنود سكارى بالكحول، لأن لا أحد في وعيه كان سيبدي هذا القدر من التسليم. يبدو أن جميع الحروب الوطنية تبدأ هكذا، ثملة بالمجد والشباب والانتصار والعلوّ. وعندما تبلغ نهايتها، تكون أحراش الفاشية قد جفّت وماتت، وتبقّى مشهد الحرب بكل واقعيتها وحساباتها العقلانية وأعبائها التي لا تُطاق وقابليتها للتواضع والتنازل والتسوية والتعايش، فتتبخّر الفاشيّة، وتنعقد المفاوضات، وتوقّع اتفاقيات السلام، ثم تُطوى صفحة الحرب، ونادراً جداً ما تُعاد قراءتها مجدداً، بذهنٍ صاحٍ.
نمت الفاشية الصغرى في الدول العربية على ضفاف الحرب على الإرهاب، فتحوّلت إلى حربٍ مقدّسة، لا ينتقدها إلا إرهابيون وخوارج، وظهر مزاج احتفاليّ في مجتمعات غير معسكرة، كمجتمعات الخليج وقت صعود عبد الفتاح السيسي في مصر وحربهِ على "الإخوان المسلمين"، ثم لم تعد تبالي بما يفعله الجنرال المهترئ بمصر وأهلها. واختارت إعلامية عربية راغبة ومُريدة أن تترك وطنها تونس الذي يعيش ديموقراطية وليدة لتقبّل البساطير في سورية. ومرّ الخليج بلحظة مركزة هذا العام إبّان تشكيل التحالف العربي ضد الحوثيين، وانظر كم في هذه الحروب من تفاصيل ثقيلة على الضمير، لم يُبالِ بها المستمتعون برؤية قدرات الأسلحة المتطورة وسماع آخر إصدارات الأغاني الوطنية، وفكّر في المسارات المعقّدة التي أفضت إلى كُلٍ منها، ثمّ فكّر في ما يُعتبر "انتصاراً" في كلّ واحدة، وفي ثمنه، وفي تبعاته.
لا توجد حربٌ، مهما كانت ضرورية، لا تستحق أن يُمشى إليها بوجل، وحذر، وكآبة.
@Emanmag
موسم ازدهار الفاشية الصغرى هو الحرب، بكلّ أشكالها وطبقاتها. الحرب على دولة أخرى، الحرب ضد فصيل داخلي، الحرب في صفّ دولة أخرى ضد فصائلها الداخلية، حرب الدولة العربية ضد مواطنيها، في أجواء الاستنفار الأمني، على ضفاف التعبئة والطوارئ. لكن الفاشية التافهة أضعف من أن تكون محرّك الحرب أو دافع الاستنفار، هي على الأكثر قائدة فريق التشجيع والهتاف، تشجّع المجتمع على أخذ حروبهِ بخفّة، الانزلاق إليها بلا تفكير، تخلق مناخاً للتعامل مع الحرب كـ"ترند"، يشتهي الجميع الانغماس فيه، مثل ثيمات الموضة الصاعدة. في لحظة الفاشية الصغرى، يستولد المجتمع الملتاث أساليب تحوّل الحرب إلى مبعث بهجة.
يخترع مصممو المجوهرات حُليّاً للنساء على هيئة طائراتٍ حربية، تُفتتح معارض الأزياء بفستان سهرة مصمم من القماش الخاكي، يبتكر الحلواني نوعاً من الكعك ويطلق عليه اسم أفتك الأسلحة، ويعلّق بائع الشاورما إعلاناً عن أحدث إصداراته: "شاورما الصاروخ". تجتهد معلمات المدارس في الاحتفال مع التلاميذ الصغار بالحدث، حيث يحرصنَ على جعلهم يحبون الحرب بلا حرصٍ على جعلهم يفهمونها، ويختلق التعليم المناسبات "التربوية" التي تفتح المجال لسيّال من الأنشطة اللا صفّية (وغير الحرّة) حول أمجاد الحرب الوطنية وفضائلها، وتساهم الجمعيات "الخيريّة" بكل ابتهاج وفخر في الاحتفال العامّ. يتوقف المجتمع عن القلق، ويتعلم
وظيفة الفاشية التافهة أن تجتذب ذاك النوع من الناس الذي يفرح بالحرب، لكنهُ لا يهتمّ بالسياسة، فهو الجمهور المثالي الذي سيوفّر أجواء احتفالٍ صاخبة، لكنهُ لن يبالي بالتفاصيل، ولا بالمآلات. وتحوّل الفاشيّة الصغرى المثقّف العربي إلى "داعية"، ويتغيّر قاموسه، مؤقتاً، فيُسمي القطيع "تلاحماً واصطفافاً"، ويُسمّي التعددية والحرية "الفُرقة وهدم وحدة الصف"، ويسمي كُلّ من خارج تيار الفاشية بـ"الخونة"، بلا أدنى شعورٍ بالعيب والارتكاس. تُسكر اللحظة الفاشية المجتمع، كما كان قادة الحرب العالمية الأولى يحرصون على إبقاء الجنود سكارى بالكحول، لأن لا أحد في وعيه كان سيبدي هذا القدر من التسليم. يبدو أن جميع الحروب الوطنية تبدأ هكذا، ثملة بالمجد والشباب والانتصار والعلوّ. وعندما تبلغ نهايتها، تكون أحراش الفاشية قد جفّت وماتت، وتبقّى مشهد الحرب بكل واقعيتها وحساباتها العقلانية وأعبائها التي لا تُطاق وقابليتها للتواضع والتنازل والتسوية والتعايش، فتتبخّر الفاشيّة، وتنعقد المفاوضات، وتوقّع اتفاقيات السلام، ثم تُطوى صفحة الحرب، ونادراً جداً ما تُعاد قراءتها مجدداً، بذهنٍ صاحٍ.
نمت الفاشية الصغرى في الدول العربية على ضفاف الحرب على الإرهاب، فتحوّلت إلى حربٍ مقدّسة، لا ينتقدها إلا إرهابيون وخوارج، وظهر مزاج احتفاليّ في مجتمعات غير معسكرة، كمجتمعات الخليج وقت صعود عبد الفتاح السيسي في مصر وحربهِ على "الإخوان المسلمين"، ثم لم تعد تبالي بما يفعله الجنرال المهترئ بمصر وأهلها. واختارت إعلامية عربية راغبة ومُريدة أن تترك وطنها تونس الذي يعيش ديموقراطية وليدة لتقبّل البساطير في سورية. ومرّ الخليج بلحظة مركزة هذا العام إبّان تشكيل التحالف العربي ضد الحوثيين، وانظر كم في هذه الحروب من تفاصيل ثقيلة على الضمير، لم يُبالِ بها المستمتعون برؤية قدرات الأسلحة المتطورة وسماع آخر إصدارات الأغاني الوطنية، وفكّر في المسارات المعقّدة التي أفضت إلى كُلٍ منها، ثمّ فكّر في ما يُعتبر "انتصاراً" في كلّ واحدة، وفي ثمنه، وفي تبعاته.
لا توجد حربٌ، مهما كانت ضرورية، لا تستحق أن يُمشى إليها بوجل، وحذر، وكآبة.
@Emanmag