12 نوفمبر 2024
الفساد عائقاً في تونس
مثلت المطالب الاجتماعية الشعارات المركزية التي انتفض على أساسها الشعب التونسي في ثورته نهاية 2010 بداية 2011، ولم يكن غريبا أن يكون الشعار المركزي لتظاهرات الجماهير الغاضبة مختصرا في كلمات "التشغيل استحقاق، يا عصابة السّراق"، وهو ما يعبر عن مطالب أساسية، أهمها التشغيل ومحاسبة الفاسدين وتحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية المطلوبة. وقد جاءت الخطوات التي اتخذتها حكومات ما بعد الثورة، في مجملها، محاولة لتلبية المطالب الشعبية الملحة في التصدّي لحالة الفساد المستشري، الأمر الذي تجلى في إحداث "اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة" في فبراير/ شباط 2011، وقد تولى المرحوم عبد الفتاح عمر رئاسة اللجنة.
وقد كُلفت هذه اللجنة بتقبل الشكاوى، والتحقيق في حالات الفساد التي وقعت منذ سنة 1987، وصياغة التوجهات المستقبلية لمكافحة الفساد، ليتم تعويضها لاحقاً بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي تم إحداثها في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، ولتصدر بعدها جملة من القرارات عن المجلس التأسيسي القاضية بمصادرة أموال الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته بدرجة أولى، ثم التحفظ على أموال رجال أعمالٍ تحوطهم شبهات الفساد والتربح، والحصول على قروض من دون ضمانات (في مجملها أموال غير مستعادة)، تضرّرت منها البنوك، وكشفت عن حالات فساد واسعة في أروقة الإدارة التونسية.
شكل الفساد جانباً مركزياً من عوامل انهيار المنظومة السلطوية للمخلوع بن علي، وهو الأمر الذي دفع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة إلى التركيز على ما سمتها الحوكمة الرشيدة ومحاربة كل أشكال الفساد، غير أن الوقائع تكشف أن هذه الظاهرة لازالت أكبر عائق أمام تحقيق نجاحات اقتصاديةٍ، أو الخروج من الأزمة المالية التي تعيشها البلاد. والمعروف أن غالبية الحملات الانتخابية للأحزاب سنة 2014 ركّزت على ما سمته محاربة الفساد، وقد حاولت الأحزاب المشاركة في الحكم القيام بخطواتٍ في هذا المجال لازالت دون المطلوب، بل وتكشف
عن عجزٍ في مواجهة هذه المعضلة. ومن ضمن هذه الخطوات، إعلان حكومة الحبيب الصيد عن جملة من المبادرات في هذا السياق، منها إحداث وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي أحدثها رئيس الحكومة في التعديل الوزاري أخيراً، بالإضافة الى إلزام الوزراء بالإمضاء على ميثاق شرف الالتزام بمحاربة الفساد ونظافة اليد، غير أن معضلة الفساد في البلاد لازالت قائمة ومؤثرة، وهو ما يمكن ملاحظته في جملة من العوامل، حيث احتلت تونس المركز 76 في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2015 الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية. وعلى الرغم من أنها تقدمت بثلاثة مراكز في المؤشر الذي شمل 168 دولة، بعد أن كانت تحتل المركز 79 في 2014، إلا أن عدد نقاطها في المؤشر تراجع، فحصلت على 38 نقطة من 100 ممكنة، بينما كان عدد نقاطها 40 في مؤشر 2014.
والواضح أن تونس تعاني من غياب إستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، وعدم تفعيل الآليات الضرورية التي تساعد على كشفه ومحاربته، ومنها عدم تفعيل هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي نص عليها دستور سنة 2014 في الفصل 130، باعتبارها إحدى الهيئات الدستورية التي تضطلع بمهمة "رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص، والتقصّي فيها، والتحقق منها، وإحالتها على الجهات المعنية"، كما ورد في الدستور التونسي.
وبالنظر إلى بطء عمل الحكومة في مجال محاربة الفساد، خصوصاً في غياب التقارير الرسمية التي تكشف عن الإجراءات المتخذة في هذا المجال، بالإضافة إلى النقد الموجه إليها، بخصوص رغبتها في تكريس حالات الفرار من العقاب وغياب المحاسبة، خصوصاً بعد أن عرضت رئاسة الجمهورية قانون المصالحة الاقتصادية، والذي وإن لم يتم تمريره، فقد شكل معضلة حقيقية، من حيث كونه ضرورة لحل مشكلات اقتصادية ومالية عالقة، وفي الوقت نفسه، فإنه بصيغته الحالية ليس محل إجماع أو توافق بين الفاعلين الحزبيين ومنظمات المجتمع المدني، الأمر الذي حوله الى مشكل.
وبعيداً عن تجاذبات الأحزاب وتلاعب الإعلام، يمكن تسجيل حالة الوعي الشعبي الممتدة من خلال طرح قضايا حيوية ومهمة، مثل ملفات الثروات الباطنية وملفات الفساد وغيرها من القضايا التي تندرج عادة ضمن المسكوت عنه، فلم يعد ممكناً بعد الثورة تكميم الأفواه ومنع الناس من طرح السؤال حول قضايا ظلت أمداً طويلاً ضمن خصوصيات أهل الحكم والسلطان. وهنا، يمكن ملاحظة أهمية ما تقوم به منظمات المجتمع المدني في مجال الكشف عن ملفات الفساد (تقارير جمعية "أنا يقظ" مثلاً)، غير أن الجهد الشعبي وحده لا يكفي إذا لم تتخذ الحكومة إجراءاتٍ حازمة وسريعة، من أجل وضع حد للتلاعب بالمال العمومي والمس بالمصالح العامة للشعب، من خلال تفعيل القوانين ومنح الفرصة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للقيام بعملها، وتكريس مزيد من الشفافية في مجال المعاملات المالية والصفقات العمومية، وهي خطوات أضحت ضروريةً، وقد تحدد مصير الحكومة الحالية والأحزاب الحاكمة، بالنظر إلى ما سيكون لها من أثر في الفترة المقبلة، سياسياً وانتخابياً، في ظل تزايد الوعي الشعبي، وقدرته على ممارسة مزيد من الرقابة ومحاسبة حكامه، وفق ما تقتضيه المواطنة في دولة الحقوق والحريات ما بعد الثورة.
وقد كُلفت هذه اللجنة بتقبل الشكاوى، والتحقيق في حالات الفساد التي وقعت منذ سنة 1987، وصياغة التوجهات المستقبلية لمكافحة الفساد، ليتم تعويضها لاحقاً بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي تم إحداثها في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، ولتصدر بعدها جملة من القرارات عن المجلس التأسيسي القاضية بمصادرة أموال الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته بدرجة أولى، ثم التحفظ على أموال رجال أعمالٍ تحوطهم شبهات الفساد والتربح، والحصول على قروض من دون ضمانات (في مجملها أموال غير مستعادة)، تضرّرت منها البنوك، وكشفت عن حالات فساد واسعة في أروقة الإدارة التونسية.
شكل الفساد جانباً مركزياً من عوامل انهيار المنظومة السلطوية للمخلوع بن علي، وهو الأمر الذي دفع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة إلى التركيز على ما سمتها الحوكمة الرشيدة ومحاربة كل أشكال الفساد، غير أن الوقائع تكشف أن هذه الظاهرة لازالت أكبر عائق أمام تحقيق نجاحات اقتصاديةٍ، أو الخروج من الأزمة المالية التي تعيشها البلاد. والمعروف أن غالبية الحملات الانتخابية للأحزاب سنة 2014 ركّزت على ما سمته محاربة الفساد، وقد حاولت الأحزاب المشاركة في الحكم القيام بخطواتٍ في هذا المجال لازالت دون المطلوب، بل وتكشف
والواضح أن تونس تعاني من غياب إستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، وعدم تفعيل الآليات الضرورية التي تساعد على كشفه ومحاربته، ومنها عدم تفعيل هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي نص عليها دستور سنة 2014 في الفصل 130، باعتبارها إحدى الهيئات الدستورية التي تضطلع بمهمة "رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص، والتقصّي فيها، والتحقق منها، وإحالتها على الجهات المعنية"، كما ورد في الدستور التونسي.
وبالنظر إلى بطء عمل الحكومة في مجال محاربة الفساد، خصوصاً في غياب التقارير الرسمية التي تكشف عن الإجراءات المتخذة في هذا المجال، بالإضافة إلى النقد الموجه إليها، بخصوص رغبتها في تكريس حالات الفرار من العقاب وغياب المحاسبة، خصوصاً بعد أن عرضت رئاسة الجمهورية قانون المصالحة الاقتصادية، والذي وإن لم يتم تمريره، فقد شكل معضلة حقيقية، من حيث كونه ضرورة لحل مشكلات اقتصادية ومالية عالقة، وفي الوقت نفسه، فإنه بصيغته الحالية ليس محل إجماع أو توافق بين الفاعلين الحزبيين ومنظمات المجتمع المدني، الأمر الذي حوله الى مشكل.
وبعيداً عن تجاذبات الأحزاب وتلاعب الإعلام، يمكن تسجيل حالة الوعي الشعبي الممتدة من خلال طرح قضايا حيوية ومهمة، مثل ملفات الثروات الباطنية وملفات الفساد وغيرها من القضايا التي تندرج عادة ضمن المسكوت عنه، فلم يعد ممكناً بعد الثورة تكميم الأفواه ومنع الناس من طرح السؤال حول قضايا ظلت أمداً طويلاً ضمن خصوصيات أهل الحكم والسلطان. وهنا، يمكن ملاحظة أهمية ما تقوم به منظمات المجتمع المدني في مجال الكشف عن ملفات الفساد (تقارير جمعية "أنا يقظ" مثلاً)، غير أن الجهد الشعبي وحده لا يكفي إذا لم تتخذ الحكومة إجراءاتٍ حازمة وسريعة، من أجل وضع حد للتلاعب بالمال العمومي والمس بالمصالح العامة للشعب، من خلال تفعيل القوانين ومنح الفرصة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للقيام بعملها، وتكريس مزيد من الشفافية في مجال المعاملات المالية والصفقات العمومية، وهي خطوات أضحت ضروريةً، وقد تحدد مصير الحكومة الحالية والأحزاب الحاكمة، بالنظر إلى ما سيكون لها من أثر في الفترة المقبلة، سياسياً وانتخابياً، في ظل تزايد الوعي الشعبي، وقدرته على ممارسة مزيد من الرقابة ومحاسبة حكامه، وفق ما تقتضيه المواطنة في دولة الحقوق والحريات ما بعد الثورة.