على الرغم من استمرار تكيّف الاقتصاد الروسي مع صدمتي تدني أسعار النفط والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب الوضع في أوكرانيا منذ عام 2014، إلا أن ملايين سكان روسيا لم يستشعروا أيّ تحسن في مستوى معيشتهم، إذ تقدر نسبة الفقراء بنحو 13 في المائة، أي نحو 19 مليوناً من إجمالي عدد سكان البلاد البالغ 146 مليون نسمة، وفق أرقام هيئة الإحصاء الروسية "روس ستات" عن عام 2018. علماً أن خط الفقر محدد في البلاد بـ147 دولاراً شهرياً.
مؤشر الفقر هذا، يتزامن مع بيانات اقتصادية تشير إلى التباطؤ المستمر في الناتج المحلي الإجمالي، ليحقق 0.5 في المائة و0.8 في المائة فقط على أساس سنوي، في الربعين الأول والثاني من العام الحالي، مقارنة مع نموّ بنسبة 2.7 في المائة سجلها في الربع الرابع من 2018، بحسب أرقام وزارة التنمية الاقتصادية الروسية. في حين يؤكد البعض تظافر الكثير من العوامل التي تزيد الشرخ الاجتماعي، أبرزها تركّز الثروة بيد قلة من رجال الأعمال، بموازاة انتشار الفساد في غير قطاع محوري في الدولة.
وأقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الفاعلية الأخيرة لـ"الخط المباشر" مع المواطنين في يونيو/ حزيران الماضي، بتراجع مستوى معيشة الروس نتيجة لمواجهة بلادهم عدة صدمات متزامنة، وفي مقدمتها انخفاض صادرات النفط والغاز والمعادن. ومع ذلك، لم يقدم بوتين أي رؤية محددة لمكافحة الفقر سوى زيادة الإنتاجية وانتباه المصرف المركزي لفقاعة إقراض المواطنين، للحدّ من حصة الأقساط من نفقات الروس.
وفي هذا الإطار، يعتبر الناشط اليساري إيغور ياسين في حديث مع "العربي الجديد"، أن "معدلات الفقر المرتفعة تعود إلى الترابط بين الأوليغارشية (حكم القلة) والنخبة الحكومية والأمنية الفاسدة حتى النخاع، التي لا تستهدف سوى جني أقصى أرباح ممكنة. أدى ذلك إلى التفاوت الهائل بين الثراء الفاحش والأعداد الكبيرة من الفقراء".
وعلى الرغم من تمكن بوتين من التخلص من إرث سلفه بوريس يلتسين، حين كانت طبقة الأوليغارشية تسيطر على الموارد الطبيعية للدولة، إلا أن روسيا لا تزال تعاني من تركز الثروة بين أيدي فئة محدودة من كبار رجال الأعمال.
وبحسب قائمة أثرى أثرياء روسيا عن عام 2019 التي أعدتها مجلة "فوربس" العالمية، فإن هناك 100 شخصية روسية تزيد ثروة كل منها عن مليار دولار. كما أن إجمالي ثروات أثرى 200 شخصية روسية يبلغ 496 مليار دولار، ويقارب بذلك مجموع الاحتياطات الدولية الروسية البالغة حالياً 510 مليارات دولار.
وحول الأسباب التي تحول دون مكافحة الفقر في روسيا، يضيف ياسين: "في هذه الظروف، أدى تراجع أحوال الكيانات السياسية ومؤسسات الدولة إلى عجز السلطة الحالية، عن تغيير الوضع بشكل جذري بسبب استشراء الفساد على جميع مستويات السلطة، فيزداد الوضع سوءاً".
وفي ما يتعلق بالتداعيات المحتملة لذلك، يتابع: "يسعى بوتين للحفاظ على الوضع الراهن وحفظ النظام عن طريق تحقيق التوازن بين مختلف مجموعات المصالح، ولكن التناقضات تتزايد، بما في ذلك داخل النخبة. نتيجة لذلك، يبدو أن المخرج الواقعي الوحيد من هذا المأزق هو تغيير النظام تحت وطأة الاحتجاجات العامة".
وشهدت روسيا في الأشهر الماضية مجموعة من الاحتجاجات، راوحت دوافعها بين رفض الإصلاح القاضي بالرفع التدريجي لسنّ التقاعد، والقضايا المتعلقة بمكبات النفايات، وتشديد الرقابة على الإنترنت، وفبركة القضايا الجنائية، وكانت أبرزها موجة غير مسبوقة من التضامن مع الصحافي الاستقصائي بموقع "ميدوزا" إيفان غولونوف، الذي اتهم بمحاولة الاتجار بالمخدرات، قبل أن يتضح أن قضيته ملفقة وتم الإفراج عنه.
ويخلص ياسين إلى أن "تظاهرات الأشهر الماضية، تبين أن هناك إمكانية لتحول الاحتجاجات الاجتماعية الفئوية إلى حراك عام ذي مطالب سياسية، بما فيها طرح السؤال الأهم حول السلطة الرئاسية".
ويشير كبير الاقتصاديين في وكالة "إكسبرت را" للتصنيف أنطون تاباخ، إلى أن "السلطات الروسية تسعى للقضاء على الفقر عن طريق تحقيق مشاريع قومية كبرى، ولكن مجموعة من العقبات الهيكلية تحول دون تراجع الظاهرة التي لا حل لها سوى تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، وفق اعتقاده. إلا أن ذلك الأمر مستحيل حالياً بسبب مجموعة من العوامل مثل العقوبات الغربية وتدنّي أسعار النفط والسياسات الاقتصادية المتشددة، والمتمثلة في السعر المرتفع للفائدة الأساسية والضرائب العالية".
وسبق أن حذّر وزير المالية الروسي السابق، رئيس غرفة الحسابات الروسية أليكسي كودرين، من حدوث انفجار اجتماعي بسبب العدد الهائل من الفقراء، الذي ذكر أن 70 في المائة منهم هم عائلات لديها أطفال، داعياً إلى زيادة عدد العائلات المتلقية للإعانات الاجتماعية.
ويعلّق تاباخ في حديث مع "العربي الجديد"، بأنه "من الطبيعي أن يقدم كودرين تحذيرات لكونه انتقل إلى صف المنتقدين بتوليه رئاسة غرفة الحسابات المراقِبة. إلا أن الإحصاءات عن الفقر ليست بالضرورة دقيقة لكونها لا تشمل المدخولات الجانبية غير الرسمية، وتصنف السكان على أنهم فقراء بناءً على مدخولاتهم عن الوظيفة الرئيسية لا أملاكهم ودخولهم الفعلية".
وحول خصائص الفقر في روسيا، يضيف: "نظراً لأسباب تاريخية، أصبح السكان قبل 30 عاماً ملاكاً للعقارات التي كانوا يقطنونها، في إطار عملية الخصخصة التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي. نتيجة لذلك، بات هناك قطاع عريض من الفقراء من حيث الدخل، ولكنهم ليسوا فقراء بحسب حجم الملكية. لذلك، فإن الإحصاءات هي مجرد تقديرات، والأدق هو تحديد المستويات المادّية للسكان حسب الدراسات التسويقية لأنماط الاستهلاك".
وتتميز روسيا عن غيرها من الدول الأوروبية بنسبة مرتفعة من ملاك العقارات بين السكان، إذ تظهر بيانات سجل الدولة الموحد لملكية العقارات أكثر من 80 مليون حق ملكية، 97 في المائة منها حقوق الأشخاص الطبيعيين. كما أن 36 مليون حالة تملك ناتجة عن عملية الخصخصة.
وعلى الرغم من أحاديث متكررة عن ضرورة عدم عرقلة نشاط الأعمال، إلا أن السلطات الروسية أقدمت على رفع ضريبة القيمة المضافة من 18 إلى 20 في المائة ابتداءً من العام الجديد، ما أدى إلى تفاقم مخاطر التضخم.
وفي تلك الأجواء، لم يبق أمام المصرف المركزي الروسي خيار سوى رفع سعر الفائدة الأساسية مرتين في نهاية العام الماضي، ليعود ويخفضها مرة أخرى من 7.75 إلى 7.5 في المائة في يونيو/ حزيران الماضي، ومن إلى 7.25 في المائة في نهاية يوليو/ تموز، وسط تباطؤ معدلات التضخم، ملوحاً بإمكانية خفضها مرة أخرى.
أما معدل نموّ الاقتصاد الروسي، فرغم تجاوزه أطول مرحلة الركود في التاريخ الحديث عام 2017، فلا يزال دون متوسط المعدلات العالمية التي بلغت 3 في المائة في العام الماضي، وفق تقديرات البنك الدولي.
وبحسب "روس ستات"، فإن الاقتصاد الروسي سجل في العام الماضي نمواً نسبته 2.3 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ عام 2012، ولكن وزارة التنمية الاقتصادية الروسية توقعت وصوله إلى 1.3 في المائة كحد أقصى في الربع الثالث من هذا العام، نتيجة ضعف الاستهلاك بعد رفع ضريبة القيمة المضافة.
ورأى البنك الدولي في تقرير حديث هو الآخر، أن العوامل مثل احتمال توسيع رقعة العقوبات الاقتصادية بحق موسكو، وتدهور الأمزجة بأسواق المال بالدول الناشئة، وتعقيد ظروف التجارة الخارجية، وتدني أسعار النفط تنذر بتراجع وتيرة نموّ الاقتصاد الروسي إلى 1.2 في المائة في العام الحالي، قابلة للارتفاع إلى 1.8 في المائة في عامي 2020 و2021.