الفلسطينيون وعملية جز العشب
ما إن سَرَت الهدنة العسكرية في قطاع غزة بين الفصائل الفلسطينية المقاتلة والجيش الإسرائيلي، حتى بدأت إسرائيل تعد العدة للحرب المقبلة، لأنها لم تحقق أي هدف جدي، يتيح لها الادعاء بأنها انتصرت في عدوانها، ولم تتمكن من إحراز أي مكسب ملموس، غير القتل والفتك والتدمير.
فموقفها العسكري غداة سريان الهدنة هو نفسه الوضع الذي كان قائماً في اليوم الأول للعدوان. وبهذا المعنى، فإن إسرائيل عجزت عن انتزاع نصر، ولو محدوداً، يمكِّنها من فرض شروطها على الفلسطينيين. وهذا الأمر يشبه، إلى حد بعيد، ما حدث في يوليو/تموز 1981 حين اشتبكت المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية في قتال ضارٍ في جنوب لبنان، وتقاصف الطرفان بجميع صنوف الأسلحة الثقيلة، ودكّت المدفعية الفلسطينية المستعمرات الاسرائيلية، ما أرغم إسرائيل على قبول وقف النار.
آنذاك، جُنّت اسرائيل لأنها اضطرت إلى توقيع اتفاق عسكري مع منظمة التحرير الفلسطينية التي لا تعترف بها. وحينذاك، قال ياسر عرفات: "استعدوا للمعركة المقبلة... لأننا حين نصبح أقوياء يزداد الخطر". وهذا ما جرى بعد أحد عشر شهراً، حين بدأ الاجتياح الإسرائيلي في 4/6/1982، وخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد 88 يوماً من الصمود الأسطوري. وفي المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1983، تبارى الجميع في الكلام على النصر الفلسطيني، ما أثار شفيق الحوت الذي بادر إلى القول: "إذا استمرت انتصاراتنا على هذا النحو، فسنعقد المجلس الوطني المقبل في ماليزيا".
* * *
الآن، هل انتصرت المقاومة في غزة؟ هكذا نقول نحن. وهل انتصرت إسرائيل؟ هكذا يقولون هم. إذاً، أين تكمن الحقيقة؟ في هذا الميدان، يمكن القول إننا حققنا إنجازات مهمة جداً، لكننا لم نحقق نصراً، لأن النصر يكون مثل "الضربة القاضية" في الملاكمة، التي تتيح للمنتصر أن يفرض شروطه على المهزوم. لكننا لم نصل إلى هذه المرحلة.
واللغة الانتصارية الجارية في الأقلام والأفواه هي لغة تعبئة، وليست لغة تأمل وإعمال نظر وتفكير ودراسة. وهذه اللغة تتكرر مع كل عدوان؛ هكذا كانت الحال في عمليات "عمود السحاب" (2012) و"الرصاص المصبوب" (2009) و"الشتاء الساخن" (2008) و"سيف جلعاد" (2006). فإذا كنا قد انتصرنا في هذه المعارك كلها، فالمفروض أن نكون على مشارف بئر السبع! وعلى المنوال نفسه، شاعت في حرب يوليو/تموز 2006 في لبنان، مقولة إن حزب الله انتصر على إسرائيل... هكذا ببساطة.
وقد كان في الإمكان القول إن حزب الله حقق إنجازات كبيرة ومهمة، ومنع إسرائيل من تحقيق انتصار على المقاومة، وأنزل بالقوات الإسرائيلية خسائر فادحة جداً... إلخ. لكن، من غير الممكن الزعم أن الحزب انتصر على إسرائيل، فالانتصار يتحقق إذا حرر الحزب جزءاً من الجليل مثلاً، بينما القرار 1701 جعل الحدود الجنوبية للبنان مقفلة أمام حزب الله، وهادئة مثل باقي الجبهات العربية.
أما الإنجازات التي حققتها المقاومة في قطاع غزة، فيمكن إيجازها بالصمود المدهش، فلم يقتحم الفلسطينيون سياج الحدود مع مصر، بل تشبثوا بأرضهم، وامتازوا بالبسالة القتالية التي "شرشحت" قوة الردع الإسرائيلية، وتبين أن الطيران الإسرائيلي يقصف غزة من دون عيون؛ فقد اقتلع الفلسطينيون "عيون إسرائيل" (العملاء) قبل العدوان.
إن قوة حركة حماس اليوم، ولا سيما في غرف المفاوضات في القاهرة، تتجلى في أن حركة فتح تقف إلى جانبها، أي أن "الوحدة الوطنية" مسألة فائقة الأهمية في النضال الفلسطيني، وليست مجرد شعار سياسي عابر، وإلا فإن الوحدة تصبح مساكنة، ويصبح الحوار "مناقرات" فتحاوية – حمساوية، وتساؤلات إحراجية على غرار "لماذا لم تبنِ حماس ملاجئ للسكان طوال سبع سنوات، منذ استيلائها على السلطة في سنة 2007؟ ولماذا لا يذهب قادة حماس إلى غزة؟". ولا شك في أن العودة إلى الانقسام، بصورته السابقة، من شأنها أن تبدد الإنجازات المهمة التي تحققت في معمعان الحرب الأخيرة.
* * *
لنتذكّر أن هدف المقاومة، في النهاية، تحويل الاحتلال إلى مشروع خاسر على غرار ما فعله المقاتلون الروس في ستالينغراد، إبان الحرب العالمية الثانية، حين كان الجيش الألماني يحتل 90% من المدينة. لكن، في لحظةٍ ما، تحول هذا الواقع إلى هزيمة للألمان، وحوّل السوفيات حصارهم في 10% من المدينة نصراً، لأن شعار المحاصرين كان: "لا أرض لنا وراء الفولغا". والفلسطينيون المحاصرون في غزة والضفة الغربية لا أرض لهم، اليوم، خارج بلادهم، لكنهم، على الرغم من ذلك، باتوا مثل عملية جز العشب، كلما جُزَّ نبت مجدداً أكثر قوة.