كان ذلك عام 1927 يوم صدر هذا الكتاب أول مرة، وكان ذلك بعد ست عشرة سنة من البحث والتنقيب والتوثيق، بدأت في مدينة وجامعة ليون الفرنسية وانتهت بالقاهرة حيث طبع الكتاب أول مرة. المؤلف هو محمد لطفي جمعة، الذي ولد في الإسكندرية ودرس الابتدائية فيها والثانوية في القاهرة، ومنها إلى بيروت حيث درس الفلسفة في الجامعة الأميركية، وليعود بعدها إلى القاهرة، ثم يسافر إلى فرنسا عام 1904 بهدف إكمال دراساته العليا، وهناك ينهي الدكتوراه في الحقوق عام 1912 من جامعة ليون. لما رجع إلى القاهرة انخرط جمعة في أجوائها السياسية والفكرية والصحافية، وانتمى إلى الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، واقترب من محمد عبده والمسشرق الفرنسي، لوي ماسينيون، وانجذب إلى الفلسفة الإسلامية والصوفية، وهو الاهتمام الذي انتهى به إلى كتابة هذا المصنف الريادي.
يبحث الكتاب في أفكار وفلسفات وإيضاحات اثني عشر فيلسوفا يمكن اعتبارهم أهم فلاسفة الإسلام، وهم: الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد، ابن خلدون، إخوان الصفا، ابن الهيثم، محي الدين بن عربي، ابن مسكويه. وهم قد رافقوا المؤلف أكثر من عشرين سنة كما يذكر، وصاروا أصدقاءه الحميمين، حتى صار يتخيلهم بهيئتهم ولباسهم " ... كُلّاً بالقباء أو المرقعة أو الدراعة أو الجبة التي تليق به ... (وهم) الذين عاشوا وتأملوا وفسروا الكون، وعللوا الحوادث قبل كانت، ونيتشه، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، وأوجست كومت، ورينان".
لكن كيف ولماذا يُعاد نفض الغبار عن هذا الكتاب القديم، وقد صدرت بعده عشرات بل ومئات الكتب في وحَوْلَ الفلسفة الإسلامية وعلوم الكلام والمنطق والفلاسفة والمناطقة؟ يأتي الجواب في تمهيد الكتاب، والذي نقرأ فيه أن نشر هذا الكتاب هو الإنتاج الأول في مشروع فكري أوسع يشرف عليه المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات أطلق عليه اسم "طي الذاكرة"، ويهدف إلى إعادة إحياء كتب طليعية وفكرية كاد النسيان يطويها.
ليس بالإمكان إدارة نقاش شامل ومعقول حول آراء المؤلف ومناهجه في مقاربة أطروحات وفلسفات من ضمنهم كتابه، ضمن المساحة المتاحة هناك، لكنها تحتمل إيراد بعض الملاحظات. أولها متعلق بانتقاء أعضاء قائمة "الاثني عشر فيلسوفاً" الواردين في الكتاب، فهنا لا يورد جمعة، على سبيل المثال، أبا حيان التوحيدي والجاحظ وآخرين محتملين ضمن قائمة فلسفته الإسلامية. كما ليس ثمة توضيح لتقديم ابن عربي على الحلاج في التفلسف الصوفي، وبشكل عام لا يقدم جمعة أية مسوغات تبرر إدراج أو استثناء هذا الاسم أو ذاك، وهذا أمر يضعف المنهجية العامة. بطبيعة الحال لا مناص من الانتهاء إلى قائمة قصيرة وواضحة، لكن يجب أن ترافقها شروحات ودفوعات حتى لو لم تكن بالغة التماسك الموضوعي.
ثاني هذه الملاحظات يدور حول النقاش المهم الذي يثيره وليد نويهض، الذي قدم للكتاب من خلال مقالة مطولة بعنوان "الطريق إلى الفلسفة الإسلامية". الفكرة الأساسية في هذه المقالة هي التحفظ الفلسفي والكلامي الذي يرفعه نويهض في كل المقاربات للفلسفة الإسلامية (بما فيها مقاربة جمعة نفسه) بسبب ابتدائها التأريخ مع الكندي فصاعدا، أي مع القرنين الثاني والثالث للهجرة. عوضا عن ذلك يرى نويهض أنه لا بد من الذهاب إلى ما هو قبل ذلك، أي إلى تأسس وبروز المذاهب الفقهية ومدارس الحديث بدءا من الربع الأخير للقرن الأول الهجري. وأن النقاشات والفضاءات الفكرية والبحثية، وكذا السياسية، التي تولدت عن تلك المجهودات أسست فعليا لبروز مدارس الفلسفة الإسلامية. ولهذا لا يمكن اعتبار الفلاسفة المسلمين نتاجا حصرياً للثقافات الإغريقية والأفكار الواحدة من خارج الفضاء العربي والإسلامي.
يشير جمعة إلى مميزات العصر العباسي واشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم والأدب، وأخبار وزرائهم وشعرائهم. ويشيد بتعددية العصر العباسي وتنوع الأفكار والمدارس: "... ومن مفاخر هذا العهد إطلاق الفكر من قيود التقليد حتى تعددت البدع وتفرقت الفرق، وكثرت النحل، وكان أكثر الخلفاء تسامحا في الدين، المأمون الذي بلغ به تسامحه أنه انتصر للمعتزلة في القول بخلق القرآن، وكانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية لا يكره الرجل على معتقد أو مذهب، وقد اجتمع ستة إخوة لـ "أبي جعد" اثنان منهما يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، وكلهم تحت سقف واحد". يضمن جمعة في الفصل التمهيدي لكتابة قوائم لأهم الكتب الفلسفية والعملية التي نقلها الفلاسفة العرب عن الإغريق واليونان والفرس وحفظوها من الاندثار. ويذكر أن أهم الخلفاء، الذين اهتموا بنقل العلوم الأجنبية من اليونانية والفارسية والسريانية والهندية، المنصور الذي اهتم بالفلك والطب، والرشيد الذي نُقل في أيامه كتاب "المجسطي" في الرياضيات، والمأمون وهو الذي اهتم بنقل الفلسفة والمنطق. ولولا الجهد العربي والإسلامي الريادي والمركزي لضاعت تلك العلوم. وهنا يقول جمعة مخاطبا أولئك الفلاسفة: "... إنه لولاكم أيها الفلاسفة الأعزة! من الكندي، إلى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف أوروبي حديث أن يُظهر في عالم الوجود، وأنكم أنتم الذين حفظتم تلك الشعلة المُقدسة التي خلفها سقراط وأفلاطون وأرسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزودتموها نارا حتى أسلمتموها مضيئة وهاجة إلى فلاسفة أوروبا المحدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كراماً حافظين".
يبحث الكتاب في أفكار وفلسفات وإيضاحات اثني عشر فيلسوفا يمكن اعتبارهم أهم فلاسفة الإسلام، وهم: الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد، ابن خلدون، إخوان الصفا، ابن الهيثم، محي الدين بن عربي، ابن مسكويه. وهم قد رافقوا المؤلف أكثر من عشرين سنة كما يذكر، وصاروا أصدقاءه الحميمين، حتى صار يتخيلهم بهيئتهم ولباسهم " ... كُلّاً بالقباء أو المرقعة أو الدراعة أو الجبة التي تليق به ... (وهم) الذين عاشوا وتأملوا وفسروا الكون، وعللوا الحوادث قبل كانت، ونيتشه، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، وأوجست كومت، ورينان".
لكن كيف ولماذا يُعاد نفض الغبار عن هذا الكتاب القديم، وقد صدرت بعده عشرات بل ومئات الكتب في وحَوْلَ الفلسفة الإسلامية وعلوم الكلام والمنطق والفلاسفة والمناطقة؟ يأتي الجواب في تمهيد الكتاب، والذي نقرأ فيه أن نشر هذا الكتاب هو الإنتاج الأول في مشروع فكري أوسع يشرف عليه المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات أطلق عليه اسم "طي الذاكرة"، ويهدف إلى إعادة إحياء كتب طليعية وفكرية كاد النسيان يطويها.
ليس بالإمكان إدارة نقاش شامل ومعقول حول آراء المؤلف ومناهجه في مقاربة أطروحات وفلسفات من ضمنهم كتابه، ضمن المساحة المتاحة هناك، لكنها تحتمل إيراد بعض الملاحظات. أولها متعلق بانتقاء أعضاء قائمة "الاثني عشر فيلسوفاً" الواردين في الكتاب، فهنا لا يورد جمعة، على سبيل المثال، أبا حيان التوحيدي والجاحظ وآخرين محتملين ضمن قائمة فلسفته الإسلامية. كما ليس ثمة توضيح لتقديم ابن عربي على الحلاج في التفلسف الصوفي، وبشكل عام لا يقدم جمعة أية مسوغات تبرر إدراج أو استثناء هذا الاسم أو ذاك، وهذا أمر يضعف المنهجية العامة. بطبيعة الحال لا مناص من الانتهاء إلى قائمة قصيرة وواضحة، لكن يجب أن ترافقها شروحات ودفوعات حتى لو لم تكن بالغة التماسك الموضوعي.
ثاني هذه الملاحظات يدور حول النقاش المهم الذي يثيره وليد نويهض، الذي قدم للكتاب من خلال مقالة مطولة بعنوان "الطريق إلى الفلسفة الإسلامية". الفكرة الأساسية في هذه المقالة هي التحفظ الفلسفي والكلامي الذي يرفعه نويهض في كل المقاربات للفلسفة الإسلامية (بما فيها مقاربة جمعة نفسه) بسبب ابتدائها التأريخ مع الكندي فصاعدا، أي مع القرنين الثاني والثالث للهجرة. عوضا عن ذلك يرى نويهض أنه لا بد من الذهاب إلى ما هو قبل ذلك، أي إلى تأسس وبروز المذاهب الفقهية ومدارس الحديث بدءا من الربع الأخير للقرن الأول الهجري. وأن النقاشات والفضاءات الفكرية والبحثية، وكذا السياسية، التي تولدت عن تلك المجهودات أسست فعليا لبروز مدارس الفلسفة الإسلامية. ولهذا لا يمكن اعتبار الفلاسفة المسلمين نتاجا حصرياً للثقافات الإغريقية والأفكار الواحدة من خارج الفضاء العربي والإسلامي.
يشير جمعة إلى مميزات العصر العباسي واشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم والأدب، وأخبار وزرائهم وشعرائهم. ويشيد بتعددية العصر العباسي وتنوع الأفكار والمدارس: "... ومن مفاخر هذا العهد إطلاق الفكر من قيود التقليد حتى تعددت البدع وتفرقت الفرق، وكثرت النحل، وكان أكثر الخلفاء تسامحا في الدين، المأمون الذي بلغ به تسامحه أنه انتصر للمعتزلة في القول بخلق القرآن، وكانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية لا يكره الرجل على معتقد أو مذهب، وقد اجتمع ستة إخوة لـ "أبي جعد" اثنان منهما يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، وكلهم تحت سقف واحد". يضمن جمعة في الفصل التمهيدي لكتابة قوائم لأهم الكتب الفلسفية والعملية التي نقلها الفلاسفة العرب عن الإغريق واليونان والفرس وحفظوها من الاندثار. ويذكر أن أهم الخلفاء، الذين اهتموا بنقل العلوم الأجنبية من اليونانية والفارسية والسريانية والهندية، المنصور الذي اهتم بالفلك والطب، والرشيد الذي نُقل في أيامه كتاب "المجسطي" في الرياضيات، والمأمون وهو الذي اهتم بنقل الفلسفة والمنطق. ولولا الجهد العربي والإسلامي الريادي والمركزي لضاعت تلك العلوم. وهنا يقول جمعة مخاطبا أولئك الفلاسفة: "... إنه لولاكم أيها الفلاسفة الأعزة! من الكندي، إلى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف أوروبي حديث أن يُظهر في عالم الوجود، وأنكم أنتم الذين حفظتم تلك الشعلة المُقدسة التي خلفها سقراط وأفلاطون وأرسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزودتموها نارا حتى أسلمتموها مضيئة وهاجة إلى فلاسفة أوروبا المحدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كراماً حافظين".
* كاتب عربي