عن "منشورات الفنك"، صدر للباحث والمصوّر الفوتوغرافي المغربي جعفر عاقل كتاب "نظرة عن الصورة الفوتوغرافية في المغرب".
لعل أهمية هذا المؤلف تكمن في كونه يناقش جملة من المواضيع والقضايا ذات الصلة بصناعة الصورة الفوتوغرافية، ليس باعتبارها منتوجاً محايداً يقوم باستنساخ الواقع، وإنما كذاكرة وكاستعمال مضاعف، يستثمر الجوانب الفنية والجمالية والأيديولوجية في تقديم هذا الواقع، سواء في شكله المفارق أو الطريف أو الموجّه.
من هنا، تبرز قوة الصورة كوسيط يستمد عناصر التمثيل من المتاح الثقافي، سواء عبر مكوّناته الشكلية، كسلّم الألوان، وتدرّجات الضوء، وطريقة توزيع مستويات المساحة المصوّرة، والشكل الذي تنتشر به الأشياء في فضاء الصورة، وتوزيع الأحجام والإيقاعات والخطوط والكتل وغيرها، أو عبر حضوره الوظيفي، بما يوجّه ذوق المتلقي ويؤطّر رؤيته للعالم وللأشياء، من خلال عمليات الإنتاج والتلقي والتداول، وفق ما يروم معالجته داخل قطاعات ومجالات تواصلية محدّدة.
بهذه الخلفية، يقوم عاقل، في الفصل الأول من الكتاب، بمقاربة موضوع استعمالات الفوتوغرافيا في المغرب انطلاقاً من أربعة أجناس تعتبر أكثر حضوراً وتداولاً، وهي: الصورة كبطاقة بريدية - في بعدها التاريخي - حيث ترجع أصولها الأولى إلى المرحلة الكولونيالية، وغالباً ما يهيمن على هذا النوع من الصور طابع الانتقاء القصدي للموضوعات العتيقة، ما يجعلها مسطحة وتقريرية وباردة، تُستثمر في حدود الإثارة دون بلوغ درجة الاستفزاز الجمالي والفني اللذين يثيران الأسئلة الإبداعية.
ولعل هذه المستويات تروّج لقيم وعلاقات وسلوكات ذات اتجاه واحد، تأخذ فيه العلامات الغرائبية والفولكلورية السطحية والفرجوية، مكانة الصدارة.
وتحضر الصورة الإشهارية، كنوع ثان من الصور التي تناولها الكتاب، لتراهن على الإغواء والإغراء، عبر توظيف جملة من العناصر التقنية والفنية، التي تستفز أحاسيس المتلقي ورغباته وذاكرته، من أجل تحقيق أكبر قدر من الاستدراج والإقناع.
هذه العناصر يحصرها الكتاب في ثلاثة، هي: اللون، الذي يحتلّ مكانة مركزية ضمن العالم الممكن الذي يصوّره الإعلان. والجنس، عبر التركيز على حضور المرأة كجسد، أو على جزء منه، بشكل مكثف يسعى الإشهاري إلى إبرازه، بهدف خلق ترابطات استعارية في ذهن المشاهد، تكون قادرة بدورها على توليد صورة قد تكون غير مألوفة، لكنها تكوّن صورة واضحة عن الجسد في ذهنه. فيما تحضر الكتابة، كعنصر ثالث، بما يسهم في تكثيف المعنى وتقليص التشويشات، بالشكل الذي يوجّه انتباه المتلقي نحو الدلالة التي تريد الصورة تبليغها.
أما الصورة الصحافية، فغالباً ما يتم توظيفها لشد انتباه القارئ – المشاهد، بما يستفز فضوله المعرفي والفني والجمالي. وهي، إلى ذلك، تقوم على إعادة تشكيل وعيه وتسائل مخيّلته وتخلخل ذوقه، بطريقة تعيد تركيب عناصر العالم المرئي الذي يحيط به ويمثّل قيمه.
يقارب الباحث، في الجنس الرابع، موضوع الفوتوغرافيا السياسية في المغرب، في علاقتها بالأشخاص أو بالأحداث الكبرى، التي عرفها المجتمع المغربي في العشرية الأخيرة، حيث يعتبر المؤلف أن تاريخ الأوطان والأفراد والشعوب لم يعد، مع الفوتوغرافيا الصحافية، يكتبه المؤرخون وحدهم، وإنما صارت فصوله تشاهد كما تقع أطوارها في حينها، عبر هذه الوسائط التي اكتسبت سلطة التأثير في الحدث بل وتوجيهه.
في الفصل الثاني، يقوم عاقل بمعالجة قضية تمثّلات الفوتوغرافيا في المغرب، انطلاقاً من ثلاثة محاور أساسية، هي: أولاً، مظاهر البورتريه الفوتوغرافي، الذي يرجع زمن التقاط أولى نماذجه إلى أواخر القرن التاسع عشر.
كان ذلك تحديداً في فترة حكم السلطان الحسن الأول (1873 – 1894)، الذي سمح بأخذ بورتريه له يخلّد صورته، وكان خليفته السلطان عبد العزيز (1894 – 1908) قد اعتُبر أول الفوتوغرافيين المغاربة: تصويراً وتحميضاً وسحباً، ما رسخ التعاطي مع هذا الفن، بغير تلك الخلفية الدينية التقليدية التي كانت تحرّمه، كما أسهم في تخليد صورة الكاتب والشاعر والمؤرخ والسياسي في المتخيل الجمعي، فضلاً عن تحوّله إلى موضوع لمطارحة قضايا تهمّ علاقة الفرد بالوجود، أو الحياة بالموت والهوة الفاصلة بينهما، ليس من منظور ديني وإنما بمرجعيات فنية.
يتناول المحور الثاني مسألة المدينة المغربية - الرباط تحديداً - في نظرات الفوتوغرافيين المغاربة والأجانب. حيث يشير عاقل إلى أن حضور صور الفضاءات الحضرية العصرية والمراكز الجديدة في مدن المغرب يبقى قليلاً إن لم يكن شبه غائب عن أرشيفه الفوتوغرافي.
وعلى الرغم من ذلك، ورغم تباعد الفترات التاريخية واختلاف المنطلقات الفكرية والجمالية بين الفوتوغرافيين وتعدّد القصديات في إعادة إنتاج صورة المدينة، إلا أن هناك تقاطعات وتجاذبات وانزياحات بين صور هؤلاء، كما أن هناك تشابهات على مستوى التأطير والفضاءات المصوّرة وزوايا النظر، على الرغم من خصوصيات النظرات.
أخيراً، يدرس الباحث موضوع فوتوغرافيا الريبورتاج في المغرب، من خلال تجارب ورؤى، بشقّيها التوثيقي والتعبيري، حاول أصحابها رصد تحوّلات المجتمع المغربي وديناميته وتناقضاته ومتغيراته.
ومن هذه التجارب، يشير الباحث إلى عدد من الفنانين، مثل التهامي بنكيران، باعتباره أحد المهووسين بفكرة المزج بين أسلوبيْ التوثيقية والتعبيرية في إنجاز العمل الفني؛ ومحمد مالي المنشغل بموضوع الإمكانات والاستعمالات والتمثلات الفوتوغرافية، التي يمكن أن يتخذها مكوّن النور أو يسهم بها في بناء العمل الفوتوغرافي وتطوير عرضه تقنياً وفكرياً وفنياً.
كما يعرض تجربة رشيد الوطاسي، الذي يشتغل برؤية معاصرة على تفاصيل اليومي المغربي والطنجاوي تحديداً، إضافة إلى نور الدين الغماري، الباحث عن صيغ شكلية ومضمونية جديدة لجنس البورتريه في تعدّده وأجناسه، فيما يضيء شغف المصوّرة ليلى غاندي بالتقاط لحظات تعكس التعدد العرقي والاختلاف الديني والتنوع الجغرافي والثقافي، ثم يقدّم أخيراً حسن نديم المتعقّب للإيقاعات المختلفة لحياة المراكشيين عموماً.
يخلص عاقل إلى أن القاسم المشترك بين كل هذه التجارب أنها تمنحنا معرفة بصرية، وتكشف لنا عن بعض الثغرات والتقلبات المجتمعية والثقافية. كما أنها تمنحنا إمكانات الوقوف على التحوّلات التي تعيشها الفوتوغرافيا في المغرب، وتشخيص وضع الصورة عموماً، من حيث مكانتها واستعمالاتها أو تمثلاتها، كثقافة وفكر ونظر.