الفوضى القادمة
ليس العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وحده غير المسبوق كمَّاً ونوعاً إلى الآن، بل أيضاً مستوى الخذلان والتواطؤ وتآمر بعض العرب. فمثلاً، حتى أيام نظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك، لم يصل مستوى تواطؤ نظامه مع إسرائيل في عدوانها على غزة إلى الحد الذي وصل إليه تآمر نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي عليها، وعلى مقاومتها. ويكفي للتدليل على ذلك، هنا، الإشارة إلى مبادرته التي تساوي الضحية بالجلاد، وتسعى إلى نزع سلاح المقاومة، فضلاً عن تشديده الحصار على غزة، وتماديه في جهود هدم أنفاقها، شريان حياتها، وتحميل إعلامه مقاومتها مسؤولية العدوان.. إلخ.
مصر-السيسي ليست وحيدة في معركة التآمر والخذلان العربي، فهي مدعومة من محور عربي يتواجد ضلعاه الأثقل في الخليج العربي، وله امتدادات أخرى في دول عربية أعلنت عداءها الصريح لانتفاضات الحرية العربية، وبذلت جلَّ جهدها لإحباطها وإخضاعها.
بعض أضلاع هذا المحور، استثمرت، وما تزال، في فوضى كثيرة نشهدها في الفضاء العربي، وتحديداً في دول الانتفاضات العربية. وما ليبيا إلا أنموذج حيٌّ شاهد على ذلك. أيضا، سورية، ضمن أحد سياقات ثورتها، ليست بعيدة عن محاولات إغراقها في الفوضى، على أمل إضعاف نظامها وراعيه الإيراني، وأيضاً حرف مسار ثورة الشعب السوري من ثورة حرية إلى كونها مجرد أداة في استنزاف الخصوم الإقليميين. فنجاح محاولات حرف الثورة السورية، وفشلها، إلى الآن، في تحقيق ما انطلقت من أجله، من حرية وانعتاق من نظام طاغية، حتى وإن نجحت في إسقاطه، يعني مزيداً من الإضعاف والإنهاك لرياح التغيير في المنطقة، ووأدها، ولو إلى حين.
غير أن الذي لا يلقي له محور العداء لخيارات الشعوب بالاً يتمثل في أن هذه الفوضى التي يتم "هندستها" بعناية لن تكون محصورة في الدول التي يتم استهدافها بها فحسب. فهذه الفوضى معدية، وقابلة للانتقال السريع في هشيم المنطقة ككل. الأهم أن هذه الفوضى ليست قابلة للانتقال من دولة إلى أخرى فحسب، بل إنها، في ظل معطيات الإقليم وفضائه اليوم، تغدو هي النتيجة الحتمية لمسار الأحداث.
الانتفاضات العربية، جاءت، في جانب كبير منها، استجابة بشرية طبيعية لمستوى القمع والفساد والتخلف والفقر والتفاوت الطبقي الصارخ وانعدام الكرامة وانسداد الأفق أمام أجيال العرب، إلخ. هذه المعطيات لم تختف من الساحة، بل تتعمق اليوم وتتوسع، وهي ليست حكراً على الدول العربية الفقيرة، أو شحيحة الإمكانات والموارد، بقدر ما أنها تشمل، أيضا، معظم المنظومة العربية الرسمية، بما في ذلك التي تشكل، اليوم، تيار الرفض العربي الرسمي لأي تغيير في بنى النظام العربي الرسمي المتهالك والبالي.
الآن، ولأن معطيات الانفجار الحتمي ما زالت قائمة، أيضاً، ولأن انتفاضات الإصلاح العربي السلمية اصطدمت بوحشية الأنظمة الرسمية، وفشلت، أي هذه الانتفاضات، في معظمها، إن لم يكن كلها عمليا، أمام جبروت هذه الأنظمة وبناها العميقة، فإن الخيار الوحيد الذي قد يكون تبقى أمام منطقة محتقنة عاجزة عن التنفيس، قد يكون انفجاراً فوضوياً مدمراً في فضاء الإقليم ككل. مثل هذا الانفجار سيكون أقرب إلى الشمول والعموم، وستكون فوضى العراق أو سورية أو ليبيا، وأغلبها، مرة أخرى، "مُهندس"، مجرد نماذج مصغرة لما قد يضرب المنطقة.
نعم، لا يمكن لهذه المنطقة أن تستمر على ما هي عليه، وبقاء الحال قطعاً من المحال، وكل ما تنتظره صاعق تفجير، وصواعق التفجير كثيرة ومتعددة. وما يفعله المحور الرسمي المعادي لحرية الشعوب العربية وكرامتها من تمويل "وهندسة" للانقلابات والفوضى في دول بعينها، لا يمكن بحال أن يبقى خارج ردود الفعل، أو حبيس الدول المستهدفة. جهود هذا المحور المدمرة لا تخرج عن سكب مزيد من الوقود في يباس هذه المنطقة وهشيمها الذي تذروه الرياح، وشررها، قطعا، سيصل يباس الجميع الجاف والقابل للاشتعال سريعاً. فمحاولة قمع الإنسان وتطويعه وبرمجته على الذل، قد تنجح سنين أو عقوداً، كثرة أم قلة، لكنها لا تملك أبداً خاصية الحياة الأبدية. ذلك مغاير لنواميس الكون، ومضاد للفطرة البشرية التواقة إلى الحرية والكرامة، كما أنها تعاكس حركة التاريخ والتجربة البشرية الطويلة.
وعودةً، الآن، إلى ما بدأنا به من الخذلان والتواطؤ والتآمر بعض العربي على قطاع غزة ومقاومة شعبه الباسلة أمام العدوان الصهيوني الوحشي. فما يجري، الآن، واحدة من المحاولات الكثيرة التي يشرف عليها محور الرفض العربي للتغيير، لكسر روح المقاومة والكرامة والحرية التي ما زالت تكابد، وهي تحاول استمرار التدفق في جسد هذه الأمة المنهك. لذلك، فلا غرو أن تجد أن هذا المحور دخل في تحالف استراتيجي مع إسرائيل وبعض الغرب، لخنق مثل هذه الروح ووأدها.
ولكن، ومرة أخرى، مثل هذا الحلف المدنس، هو بحد ذاته، سيكون، عاجلاً أم آجلاً، فالذاكرة الجمعية للأمة تسجل، ولا تنسى سببا من أسباب الانفجار الفوضويِّ القادم. فإذا سدت جميع المنافذ، وجرحت الكرامتان الوطنية والقومية، وتعذر التغيير السلمي، وتنفيس الاحتقان من دون عنف، فارتقب فوضى قادمة، لا تبقي ولا تذر، ستضرب كل أرجاء المنطقة. ولكن، حينها، ستكون هذه الفوضى "طبيعية" وليست "مُهندسة"، من دون أن يعني ذلك ألا تساهم قوى خارجية في صب مزيد من الزيت على نارها المشتعلة.