أكثر ما يلفت الانتباه لدى دخول أي بيت في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، هو وجود "القبضة اللاسلكية"، التي يكاد لا يخلو بيت منها في تلك المناطق. فعلى الرغم من أن جهاز اللاسلكي، أو "القبضة"، كما يسميه سكان شمال سورية، هو جهاز مصنّع للاستخدامات العسكرية، إذ يتم من خلاله التواصل بين عناصر الفصيل العسكري الواحد أو التواصل في ما بين الفصائل المختلفة أثناء تنسيق العمليات العسكرية ضمن ترددات خاصة، إلا أن لـ"القبضة" في مناطق سيطرة المعارضة، شمال سورية، استخدامات أخرى.
فقد حوّل سكان تلك المناطق "القبضة" إلى أهم وأسرع وسيلة إعلام على الإطلاق، يتلقّون من خلالها أخبار المعارك الدائرة في كل الجبهات السورية، ومن أرض المعركة مباشرة، كما يتمكنون عبرها من معرفة وجهة الطيران الذي يقصفهم منذ لحظة انطلاقه من المطار وحتى وصوله إلى الهدف. وتُستعمل "القبضة" أيضاً في إذاعة النقاشات العامة حول القضايا الآنية التي تهم الناس في تلك المناطق، وهي وسيلة إعلام تفاعلية يتمكن الناس عبرها من المشاركة في النقاشات التي تُبث خلالها، بالإضافة لاستعمالات أخرى كالإعلان، والتنبيه، والدعوات، وغيرها.
ولـ"القبضة اللاسلكية" عدد كبير من الترددات يمكن أن "تولّف" عليها من أجل الحديث بين مجموعة من الأشخاص من دون غيرهم، وهناك تردد عام يحمل الرقم 12 وهو الذي تذاع من خلاله كل البيانات العامة، ويكون عادة التردد الذي يستعمله المدنيون.
في منزل أبو خالد الصادق، في مدينة بنش، كانت الساعة تقارب الرابعة عصراً حين انطلق من "القبضة اللاسلكية" المركونة إلى جانب النافذة، تحذير صادر عن أحد المراصد التابعة لفصائل المعارضة بأن "طائرة حربية فوق سرمين ذاهبة باتجاه بنش، وعلى الاخوة في بنش أخذ الحذر".
خلال لحظات، قفز أبو خالد إلى الشارع وقام بإدخال أطفاله الذين يلعبون خارجاً، إلى قبو البناء الذي يسكنونه، ومع دخولهم البيت كانت الطائرة قد أصبحت فوق سماء المدينة، ولكن هدفها كان مطار تفتناز العسكري الذي استهدفته بعدة صواريخ عن بُعد.
وما أن انتهت الغارة، حتى عاد الوضع إلى ما هو عليه وكأن شيئاً لم يكن، في ما عدا أبو خالد الذي بدا متوتراً وقام بإطفاء "القبضة اللاسلكية"، وهو يشرح، لـ"العربي الجديد"، كيف أن "القبضة" تجلب أحياناً التوتر أكثر ممّا تبعث على الطمأنينة، موضحاً أنها تجعل الناس يعيشون في رعب يومي، وكأنهم يقصفون كل ساعة، من خلال متابعتهم لحركة طائرات النظام. ولكن لم تكد تنقضي ربع ساعة من الزمن حتى طلب من ابنه أن يعيد فتح "القبضة" لمعرفة ما يجري من أحداث في المنطقة.
أما سالم صناع، وهو ميكانيكي سيارات في مدينة سراقب، فيرى أن "القبضة" أصبحت في ريف إدلب بديلاً لكل وسائل الإعلام، فهي تؤمّن المعلومة الأسرع والأصدق والأهم.
ويضيف صناع: "يستعمل معظم المدنيين القبضة على التردد رقم 12، إذ يستطيعون من خلالها الاستماع للبيانات الصادرة عن قادة الجبهات فور صدورها وأخبار المعارك التي تصل إلينا عبر القبضة بشكل أسرع من أي وكالة أنباء، لأنها تُنقل مباشرة من أرض المعركة، كما أنها، ومن خلال اتصالها بالمراصد المتواجدة في المحافظة، تحذر الناس من القصف الجوي قبل وقوعه، ما يُمكّن المواطنين من أخذ احتياطاتهم والانتقال إلى مكان أكثر أمناً، كما تتنبأ بالقصف المدفعي وتحذر الناس منه، إما من خلال الخبرة أو من خلال التنصت على ترددات القبضات التي يستعملها عناصر جيش النظام".
ويلفت صناع إلى أن "انعدام الكهرباء ووسائل الاتصال الأخرى يجعل من القبضة وسيلة للتسلية أهم من الراديو، فهي تشهد نقاشات وأحياناً مشاحنات حول القضايا الآنية التي تهمّنا، لأن من يطرح النقاشات هم أشخاص يعيشون بيننا، ويمكننا من خلال القبضة المشاركة في النقاش والتفاعل معهم".
من جهته، يعتبر محمد مرعياني، النازح من مدينته أريحا التي يسيطر عليها النظام إلى مدينة بنش في ريف إدلب، "القبضة" الموجودة في بيته وسيلة تسلية من خلال الاستماع للنقاشات التي تدور عبرها، بين عناصر من فصائل المعارضة وآخرين تابعين لجيش النظام، وأحياناً بين مدنيين مؤيدين للنظام وآخرين معارضين، والتي غالباً ما تنتهي بسباب وشتائم بين الطرفين.
كما أنه يستعملها كوسيلة تواصل مع الفريق الذي يعمل معه في توزيع المنتجات الغذائية، للاطمئنان على وضع الطريق في المناطق التي يقصدها.
ويقول مرعياني: "أستعمل القبضة أيضاً في الاطمئنان على عائلتي أثناء سفري، إذ أمتلك واحدة معي في السيارة وأخرى في البيت، كما أطمئن من خلالها على الأقارب والأصدقاء الذين يمتلكون قبضات، وفي كثير من الأحيان أدعو الأصدقاء للسهرة عبر القبضة".
أما أحمد السيد، من مدينة بنش، فيعدّد فوائد أخرى لـ"القبضة"، مبيّناً أنها بالإضافة إلى كونها وسيلة تسلية وتحذير، فهي وسيلة للإعلان عن حصص الإغاثة التي قد تصل أو الإعلان عن وصول أسطوانات الغاز إلى مركز توزيع ما.
ويضيف أن "القبضة تُستعمل بشكل متبادل بين عناصر الدفاع المدني والأهالي، فحين وقوع حادث ما يمكن أن تكون الوسيلة المتاحة لإخبار الدفاع المدني بوقوعها، كما يستعمل عناصر الدفاع المدني القبضات في طلب المساعدة بأي أمر".
ويشير السيد أيضاً إلى أن "القبضة" تُستعمل في كثير من الأحيان بين عمال المصلحة الواحدة لتبادل المعلومات والأخبار، وخصوصاً ضمن المصالح التي لا تتضمن معلومات خاصة، موضحاً أن أي تردد يمكن أن "تولّف" عليه القبضة يمكن اختراقه، لذلك لا يمكن استخدام "القبضة" في تبادل المعلومات السرية أو ضمن الأعمال التي تكون المعلومات التي يتم تبادلها على جانب من السرية.