القبلة الأولى
ميخائيل سعد
في بداية ذلك الصيف، كنت قد قررت الذهاب إلى لبنان للعمل هناك. وحسب خبرة الأولاد الحماصنة، من أصول ريفية، كان العمل في لبنان متوفراً للسوريين؛ الصغير منهم والكبير، والمردود جيد. قادتني الظروف إلى "برمانا"، وتحديداً إلى مقهى ومطعم الـ"تيفولي"، والذي كان يرتاده المشاهير والأثرياء، ففيه رأيت المطربة، صباح، تجلس على إحدى الطاولات، وكنت أعتقد أنها مقيمة في الراديو، وأن حجمها يجب أن يكون صغيراً لدرجة تستطيع الدخول في أي راديو، تسكن فيه وتغني منه. ولولا قراءتي المبكرة لـ"رحلات جيليفر" لما كان بإمكاني هضم مفاجأة حجم صباح الكبير مقارنة مع راديو الترانزيستون الذي يمكن وضعه في جيب البنطال وسماع أغانيها منه.
كانت حصيلة خبراتي من شهري العمل في لبنان كبيرة ومتنوعة؛ فعلى شاطئ بيروت رأيت لأول مرة فخذي امرأة ترتدي مايوه سباحة، فكانا قلقي الدائم بعد ذلك. وفي برمانا عرفت معنى أن تكون عاملاً "مرمطون" برتبة "عبد سوري".
وفي ذلك الصيف تعرّفت على أكل الضفادع، وكنت أعتقد أن الضفادع اللبنانية تختلف عن الضفادع السورية، ففي قريتنا يحتقرونها، ويكرهون لمسها؛ فمن غير المعقول أن تكون كالضفادع اللبنانية التي يأكلها الناس بشهية في مطعم "التيفولي"، ولكن الشيف الأرثوذكسي اللبناني الكبير، ميشيل، والذي كان قد تخرّج في المدرسة الغسانية الأرثوذكسية في حمص، أسرَّ لي، من باب التعاطف مع أرثوذكسي حمصي، أن ضفادع البلدين الشقيقين تتشابه في التكوين والطعم، وإن كانت "حواضنها" النهرية مختلفة.
من الخبرات اللبنانية الأخرى، التي جعلتني أنضج بسرعة، رؤيتي لشباب وصبايا يقبّلون بعضهم في "الحرش" القريب، وكانت رؤيتهم تذكرني بإحدى بنات عمي في القرية، والتي كنت لا أخفي حبي لها.
بعد شهرين من العمل، قرّرت العودة إلى سورية، فقد وصلتني رسالة من والدي يخبرني فيها أنني نلت الشهادة الإعدادية بتفوّق، ويجب العودة للتقدم إلى دار المعلمين في حمص. ولكي أكون لائق المظهر، اشتريت طقماً جديداً مع قميص أبيض وأزرار ذهبية للكمين. ومن حسن الحظ أن حذائي كان "يلبق" (يليق) للطقم، ولا مبرر لصرف مبلغ كبير ثمن حذاء جديد.
عندما وصلت إلى دمشق كان قد تبقى معي 200 ليرة سورية من عمل الشهرين، وعندما علم أخي بذلك طلب مني استدانة 100 ليرة، فراتبه لا يكفيه، وهكذا وصلت إلى قرية حزور مرتدياً طقماً جديداً مع قميص أبيض وأزرار ذهبية في الكمين، وفي جيبي 100 ليرة سورية. وكان أول ما فعلته بعد أن سلّمت على أهلي، وأبي الذي كان في إجازة، أنني ذهبت لعرض نفسي على ابنة عمي، والتي أخبرتني متباكية، أن أحد شباب القرية قد تقدّم لخطبتها من والدها. وعلى الرغم من الخبرات التي عدت بها من رحلتي اللبنانية، إلا أنني فهمت تباكيها على أنه رفض للشاب وتفضيلي عليه، فما كان مني إلا أن أسرعت لرؤية والدي والطلب منه الذهاب إلى عمي، والعم هنا تعني أنه من العائلة، وخطبة الفتاة لي، مع شرحي له أن العم قد يكون مارس نوعاً من الضغط على ابنته لتقبل بالعريس الآخر. وعلى الرغم من صغر عمري، إلا أن والدي قد راقت له، ربما، فكرة رجولة ابنه، فنهض من ساعتها وذهب إلى قريبه، وسمع بأذنيه من الصبية أنها موافقة على الشاب من دون ضغط أو إكراه.
بعد عدة أيام كان منسوب التعاسة عندي قد تراجع، وانهمكت مع أصدقائي في صيد الضفادع من نهر القرية، وإذا بابنة عمي تنادي، من حقل يطل على النهر، فلبّيت طلبها بسرعة، وجلسنا تحت ظلال شجرة توت، فقالت لي إنها تحبني فعلاً، ولكنني صغير على تأسيس بيت، وهي لا تستطيع الانتظار إلى أن أصبح شاباً، وعندما ودّعتني طبعت قبلتين على خديّ، ما زلت أشعر بحرارتهما حتى الآن، وأنا على أبواب السبعين.