يصفها الكثيرون بأنها قلب الصّراع مع العدو، وفي أحيان أخرى يقولون إنها قلب الأمّة العربيّة والإسلاميّة، الموضع الأساسي لعمليات الصهينة والتهويد. باسمها هتفت حناجر الغاضبين والثائرين في عواصم عربية عدة. آخرون، أقل غضباً، يخصّصون شرقها بالذكر، فينادون به عاصمةً لدولتهم المنشودة. يردُّ عليهم في كلّ تظاهرة، غاضبون من درجات باب العامود، الباب الأشهر لبلدتها القديمة، صارخين: "لا شرقية ولا غربية، هذه القدس عربية".
إن أردت معرفة أي حياة تعيش القدس، فدعك من الكتب والمحاضرات، انطلق في شوارعها في مثل هذا اليوم، "يوم القدس"، أو "يوم تحرير القدس"، كما يحب الإسرائيليون تسميته. وحدها المشاهدة والتأمل تعلّمك الكثير. يوم الأربعاء 28 مايو/ أيار، هو "يوم القدس" الذي يصادف وفق التقويم العبريّ احتلال شرقي المدينة ببلدتها القديمة وما جاورها من أحياء عام 1967. يحتفل الإسرائيليون به بمسيرة ضخمة تتجوّل في محيط البلدة القديمة وتخترقها من باب العامود مروراً بالأحياء العربية وصولاً إلى حائط البراق. يبدأ "يوم القدس" باكراً بمسيرات متفرقة وراقصة صغيرة، إلى أن ينتهي بتلك المسيرة الضخمة عند قرابة العاشرة مساء.
في صباح السابع من يونيو/ حزيران عام 67، دخل موشيه ديان إلى ساحات المسجد الأقصى، ووقف وجنوده أمام حائط البراق. تسجيلات الجنود الصوتية المنتشرة تنقل إلينا "فرحتهم" و"هزيمتنا"، إذ يهتفون: "جبل الهيكل بيدنا... حائط المبكى لنا". اليوم، بعد 47 عاماً، لا يبدو المشهد مختلفاً، فكلّ شيء "بيدهم". "أبو محمد"، صاحب محل لبيع ألعاب الأطفال، أجاد وصفه قائلاً: "بدهم ينظفوا البلد من العرب". قالها وهو ينظر إلى جنود الاحتلال وخيّالته يقومون بتفريق الشبان الفلسطينيين عن محيط باب العامود، ليخلوا المكان أمام مسيرات المستوطنين الاحتفالية. أبو محمد يخبرنا أن سلطات الاحتلال وزعت على التجار أوامر بإغلاق محالهم باكراً حتى "تخلو البلد لمسيرات المستوطنين". على مقربة منه تاجر متجول ينادي: "غلاكسي اس 4.. غلاكسي اس 4 يا شباب"، غير عابئ بأوامر جنود الاحتلال بإخلاء المكان، لعلها آخر محاولة لالتقاط الرزق لمجتمع يرزح أكثر من 70 في المئة من عائلاته تحت خطّ الفقر. تاجر آخر يرفع صوت الراديو في محله: "من حديد باب الأقصى من حديد.. لا يفتح باب الأقصى إلا الشهيد".
في العام الماضي وفي المناسبة نفسها، انبهر المقدسيون من قوّتهم وحشدهم. يومها أعادوا لباب العامود رونقه العربيّ، كان عددهم كبيراً، وقفوا رافعين الأعلام الفلسطينية ومشتبكين وجهاً لوجه مع المستوطنين والجنود، لم تمنعهم قوة السلاح عن الهتاف العالي والتحدي. يبدو أن ذلك فاق حدود المقبول لدى رجال الاستخبارات والشرطة الإسرائيلية، فأغلقوا محيط باب العامود في وجه الفلسطينيين باكراً هذا العام، ومُنِع الدخول إلى البلدة القديمة إلا لمَن يسكن فيها.
بعدما أُفشِل الاعتصام الفلسطينيّ على درج باب العامود، جرت في المكان عمليات كرّ وفرّ بين الشبان وجنود الاحتلال. إصابات بقنابل الصوت وغاز الفلفل، واعتداءات على السيدات والفتيات، واعتقالات لبعض الشبان. في نظر الفلسطينيين في القدس يبدو ذلك عادياً أو محتملاً بعض الشيء، أما الأصعب فهو "منظرهم"، أي مشهد المستوطنين يسيطرون على ميدانهم الأول والأهم، "باب العامود"، ويستبيحون مدينتهم.
يكفيك أن تسمع بعض الأطفال يرددون بحرقة: "شوف منظرهم"، لتعرف ألم الفلسطينيين بفقدان شعور الملكية إزاء مدينتهم. ترددت في المكان بين الموجودين والرافضين لأوامر الإخلاء المتكررة من قبل الجنود، عبارات: "كم أكره هذا اليوم!"، "يوم القدس هو من أصعب الأيام على المدينة". ذلك "المنظر" الذي لا يُحتمل، يحمل في مركزه "مسيرة الرقص بالأعلام"، الآلاف من المستوطنين يسيرون من أعلى تلة باب الخليل باتجاه باب العامود، يرقصون في حلقات، رافعين الأعلام الإسرائيلية، ومنشدين: "شعب إسرائيل حيّ".
تخترق المسيرة أحياء البلدة القديمة وتسير وسط الأزقة من تحت نوافذ الفلسطينيين، حتى تصل إلى ساحة حائط البراق. الشوارع شبه خالية إلا من قلة يفعلون أكثر ما يقدرون عليه: حجارة قليلة وبعض الهتافات هنا وهناك.
صوت المستوطنين يعلو أكثر فأكثر، أناشيد صهيونية تمجّد "قدس الذهب" و"قدسنا" كما يسمونها، وبعض الشتائم للعرب هنا وهناك. رغم كلّ الحراسة الأمنية التي توفرها سلطات الاحتلال بأذرعها، من شرطة وجيش واستخبارات، للمستوطنين، إلا أن تلمّس الخوف في عيونهم وهم يمرون من أمام الفلسطينيين ليس منالاً صعباً.
يزداد عدد المستوطنين وتسيطر على سماء المدينة المزيد من الأعلام الزرقاء ـ البيضاء، بينما يستكمل بقية التجار إغلاق محالهم، ويغادر آخر المتظاهرين الشوارع، ولا يبقى إلا عدد قليل من الصحافيين والمسعفين حتى ممّن لم يسلموا من اعتداءات المستوطنين. يخيّم الظلام، "القدس بيدنا.."، البلدة القديمة مليئة بآلاف المستوطنين، سكانها الفلسطينيون متحصّنون في بيوتهم الضيقة ولا يملكون ـ يآئسين ـ إلا الدعاء على مَن ينشدون تحت نوافذهم، وعلى مَن فرّطوا فيها.
أما على الجانب الآخر، في غربي القدس المحتلة، تبدو الحياة هادئة، والشوارع في عالم آخر. فعلى عكس احتفالات "عيد الاستقلال" الإسرائيلي الذي يجمع مختلف التيارات الإسرائيلية، قلما يشارك الإسرائيليون العلمانيون في احتفالات "يوم القدس"، وبعضهم قد لا يعرف تاريخه، كما تصف ذلك إحدى الصحف الإسرائيلية الصادرة في "يوم القدس". وعدا الاحتفالات الرسمية الإسرائيلية، كما كل عام، يدور جدال هادئ حول "هوية" اليوم؛ فبينما يطالب أعضاء كنيست من حزب "ميرتس" الإسرائيلي بإلغاء القانون الذي يحدد "يوم القدس" كيوم وطني إسرائيلي سُنَّ عام 1998، يطالب أعضاء كنيست آخرون بتحويله إلى يوم عطلة رسمية مثله كمثل الأعياد الوطنية الأخرى، وذلك بهدف "إعطائه مكانته المناسبة في التجربة الإسرائيلية"، على حدّ تعبيرهم.
يعود المقدسيون إلى بيوتهم، وفي عقولهم صورة ذلك اليوم، ألمه واستفزازه، وضيقه، ويعودون شيئاً فشيئاً إلى ممارسة الصمود اليومي والركض وراء لقمة العيش والتحايل على كلّ وسائل حصارهم وتركيعهم. تحضر كذلك صورة الغياب الواضح لكلّ مَن ينادي بالقدس شعاراً وعاصمة. لا أحد من "القيادات" و"المسؤولين" في الميدان، بينما يتردد من مكتب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، القريب، صوت عبارة: "نحن مشغولون بالعمل اليومي من أجل القدس... ولا نلتفت للحديث عن مستقبلها".