نفكر، ونحن نقرأ رواية "القسم 14" الصادرة أخيراً عن "المركز الثقافي العربي" (بيروت/ الرباط)، بعناوين لغارسيا ماركيز، كـ"الجنرال في متاهته" أو "ليس للكولونيل من يكاتبه". لكن الروائي الفلسطيني عبّاد يحيى يبتعد بنا عن واقع أميركا اللاتينية، ويعيدنا إلى العالم العربي. هذا العالم المثقل بماضيه الذي لا ينسحب، والذي يعاني من حداثة مقهورة.
في "القسم 14"، نخوض في عقل العقيد المسؤول عن المعسكر الذي سيستقبل أفواج الجنود المتدربين في الخارج. لا يحدّد صاحب "رام الله الشقراء" المكان الذي تجري فيه أحداث القصة. ولا نعرف شيئاً عن البلد الذي يرسل جنوده إلى الخارج للتدريب.
كل ما نعرفه هو وجود معسكر ما، في صحراء ما، في العالم العربي. هذا المعسكر يُدار من قبل العقيد الذي يتلقّى أوامره من ضابط أميركي ولجنة مشتركة بين الأميركيين وقادة الدولة، وقيادة القوات المسلحة وقوات الأمن، التي هي على مقربة من النخبة الحاكمة بكل أشكالها. وهكذا، يقع على عاتق العقيد أن يراعي هذه "المحدّدات كلها".
تبدأ الحكاية حين يتلقى العقيد أمراً بالعمل على "ترتيب أجواء ملائمة تمكّن العناصر من تفريغ طاقاتهم الجسدية حتى يبلوا بلاءً حسناً في التدريبات والمهمات القادمة".
هذه الترتيبات تؤدي إلى تشكيل القسم 14 الذي يتولى الترفيه عن العناصر القادمين من الخارج. وتُوكل إدارة هذا القسم إلى العقيد، تحت إشراف اللجنة المشتركة. ويُبنى ويُجهز القسم من قبل الأميركيين. إذاً، فإن الترفيه عن العناصر والتأكد من حصولهم على المتعة الجنسية هي مسؤولية العقيد. الرجل النزيه ذو التاريخ العسكري المشرّف، والذي لا يفصله عن التقاعد إلا بضعة أشهر.
كان السؤال الأول الذي يخطر في باله، هل ستحافظ هذه المهمة الأخيرة على سمعته وتمنحه التقاعد الذي يتوخاه؟ ولكي يُبعد عن نفسه هذه الهواجس قرر الالتزام بما دأب على فعله وهو الانصياع للأوامر وإطاعة القانون. ولعل أبلغ تعبير في الرواية على لسان العقيد نفسه، قوله: "ومن قضى عمره في الامتثال للأوامر كيف سيرفضها اليوم؟".
من الترتيبات التي أخذها العقيد لكي يستطيع مباشرة عمله هو طلبه من القيادة العسكرية، بنقل مساعدته من المعسكر. وهذه كانت خطوة أبوية لحماية المرأة الوحيدة في المعسكر. واقترح في اجتماع عائلي أيضاً أن تسافر زوجته إلى أثينا للإقامة عند ابنهما، لكي يتفرّغ لمهمته السرية. كان من نتيجة هذه الإجراءات، هو أن أحاط العقيد نفسه بالفراغ. لا شيء إلا المعسكر والقسم 14، الذي بدأ تدريجياً يستحوذ على جلّ اهتمامه.
طبعاً، كانت إدارته للقسم ناجحة جداً، نتيجة صرامته ودقة عمله. حتى وصل القسم 14 إلى درجة أصبح يعمل فيها من تلقاء نفسه على حدّ تعبيره. لكن الأمور على المستوى الشخصي لم تكن بالنسبة للعقيد بمثل هذا النجاح، فالهواجس لم تنقطع عن محاصرة عقله، وتهديد مستقبله. كان أكثر ما يشغل باله هو سرّية القسم.
أي تسريب عن مهمته الأخيرة هو تهديد لتاريخه العسكري المشرّف. ولم تتخلّ عنه الشكوك في تحوله من قائد عسكري إلى مدير قسم. وكانت آخر مشاكله هو المقدّم الذي عيّنه كي يشرف بشكل مباشر على سير عمل القسم، وسلوك العناصر والعاملات. فالمقدّم الذي كان يشكّل بالنسبة للعقيد ضميره الذي عليه أن يخنقه، طلب أخيراً نقله من المعسكر لأنه لا يستطيع أن ينفّذ أوامرَ لا تتناسب مع مركزه العسكري.
يقسِّم يحيى روايته بين سرد لعمل العقيد وهواجسه، وهامش يتبع كل فصل في الكتاب ويملؤه بملاحظات العقيد عن القسم 14. فنراه في الهامش حيناً يشرّح العلاقة بين العناصر والعاملات اللواتي "يرفّهن" عنهم. وحيناً آخر عن إمكانية الاستعانة بممثلي السلطة الروحية لإقناع العناصر المستنكفين لأسباب دينية أو أخلاقية. وقد فصّل في البداية المعلومات التي حصل عليها من الإنترنت عن أقسام مشابهة، وغالبية نتائج الشبكة العنكبوتية تتناول الجيش الأميركي وقواعده المنتشرة حول العالم.
كل هذه المعلومات والأفكار والهواجس هي انعكاس لشخص واحد. فنحن نتتبع طوال الرواية أفكار العقيد وتأملاته حول القسم الجديد، والتقلبات التي يعيشها بين شخصه الذي يمثل الطراز القديم في القوات المسلحة، والتغييرات التي يضيفها الأميركيون إلى المؤسسة الوطنية التي خدمها طوال عقود مديدة.
نطّلع على أفكار العقيد ونتابع مسار تطوّر وساوسه، لكن مشاعره تبقى منغلقة على القارىء. ولا يساعدنا الكاتب على اكتشاف كنهها، فهو يلتزم بشخصية العقيد الصارمة ويتواطأ معه، ولا يتعدى المسافة التي فرضها العقيد بينه وبين العالم الخارجي. إلا أنه مع مرور الوقت تفلت من العقيد مشاعر خاطفة قبل أن يتمكّن من تدارك الأمر واستعادة رباطة جأشة. هي أحاسيس صغيرة ترشح بين العبارات، لكن هذا كل شيء، وما تبقى هو فراغ مطبق.
تقديم عمل مختلف
تلفت الانتباه في "القسم 14" قدرة كاتبها على تقديم عمل مختلف عن روايته الأولى "رام الله الشقراء" الصادرة قبل عامين، والتي توثّق للتحوّلات التي طرأت على مدينة رام الله بعد عقدين من "اتفاقية أوسلو".
انتقل يحيى من عمل فلسطيني بمكانه ومفرداته ولغته وأسئلته المباشرة إلى عمل عربي بأسئلة أوسع وعلى شيء من التجريد في إمكانية إسقاط أحداثه على مناطق مختلفة من العالم. وإن كان العملان يختلفان من ناحية تحديد الحيّز كما في رام الله الشقراء، وفي جعله مفتوحاً ومستعصياً على التحديد كما في "القسم 14"؛ إلا أنهما يسبران موضوع الهيمنة الاستعمارية وأدواتها و"الدور المحلي" (أو الأداة المحلية) في الهيمنة وصراعات الشخوص الداخلية.
في الروايتين تسعف الكاتب خلفيته وأدواته كباحث في علم الاجتماع وموهبة واضحة في إقامة عالم سردي. وفي حين كانت الأدوات التحليلية جزءاً من بنية العمل في "رام الله الشقراء" فإن الحمولة المعرفية تخفّت بنجاح في طبقات القسم 14.