02 يونيو 2020
القمر لم ينم في تلك اللّيلة
انتصار الدنان
خيّم الموت فوق مخيّمهم، لا سنبلة قمح تنده قاطفيها، ولا قطرة ماء تروي ظمأهم، البئر الّتي كانت موجودة في المخيّم غنّت فوق مياهها جمرات من نار، ودماء من نور.
لم يتبق لهم حتّى النّفس، يسيرون على أقدامهم حفاة، تعرش على أجسادهم خربشات العمر. ينامون في زوايا الشّوارع، لا على الأسرّة النّاعمة كبقيّة البشر، يأكلون العدس المجفّف، ولا يتناولون المآكل الشّهيّة، يشربون عرقهم الّذي ينسال على وجوههم، حتّى يصل إلى شفاههم، ولا يشربون المشارب الطّيّبة.
أشباح اللّيل تطاردهم، حتّى العُصفور الّذي كان ينقر على نافذة أحمد مات، أخذته لعنة الرّصاص، فتّتت ريشه، ليتناثر فوق المخيّم. لم ينم اللّيل، ولم يحرس القمر في تلك اللّيلة باب بيته، بل صرخ به، ليفيق من غفوته، ويحمل جسده الضّئيل، ويفرّ من الموت.
كان القمر يشهد معركة الموت والبقاء، يسير فوق جثث الأطفال، والنّساء، والشّيوخ، ظلّ يسير معهم، يرقبهم، وكأنّه في تلك اللّحظات كان يحرس من بهم ألم.
بدأ الحصار على المخيّم، صار أهله كنحلاتٍ أصابها الهذيان، فرّوا منه خوفًا من الموت. جاعوا فاقتحموا معمل الغرة، لإحضار الطعام منه، فقد كان معملًا للتّمر والعدس.
تريد أم أحمد أن تطعم ولدها الوحيد. أحمد لم يتجاوز السّابعة من العمر، كان حزينًا على عُصفوره، فقد صمت لسكوته. لم يطلب الطّعام والماء، بل ظلّ صامتًا.
نقعت أم أحمد العدس بالماء وأوهمت ابنها بأنه طحين، وجبلته كما تجبل الطّحين، ووضعته على "صاجة"، وخبزته، علّ ابنها أحمد يأكل.
غالبيّة الشباب كانوا يفركون أوراق الشّجر اليابسة، ليصنعوا منه السّجائر، ويسيّحون الشّمع ويضعونه في الزّجاجات الفارغة، ويضعون فيها خيطانًا، لينير النّاس بيوتهم لأطول مدة ممكنة.
في معمل التّفاح، مات ناس كثيرون، كانوا يدخلونه ليسدوا جوعهم بما تبقى من تفّاحٍ غير مهترئ، أواهترأ نصفه.
كان بعض الشباب الّذين بقوا في المخيّم يخرجون على شكل مجموعات، لإحضار الطّعام لمن تبقّى في المخيّم. كان بعض الشباب يعودون سالمين، وآخرون يعودون محمّلين على حمالة.
كان بيت سعدى قريبًا من المعمل، وكانت ترى أولئك الشّبّان الّذين يأتون ليستريحوا قرب بنايتهم من المعارك. كانوا يذهبون لإحضار الماء من البئر، فمنهم من كان لا يرجع، ومنهم من يرجع وقد خسر عضوًا من أعضاء جسده.
تبعثرت أجزاء النّاس، تتقاذفهم بحار لا ضفاف لها، فخرجوا من المخيم. كانت شاحنات النّقل تجرّ أبناء بعض ممن كانوا في الشّاحنة، وتذكر سعدى أنّها شاهدت امرأة من بعلبك كانت عددصا من الشّباب بعصا رفش. كانت تمسك الشّاب من شعره، وتنزله إلى الأرض، ومن ثمّ تضربه الضربة القاتلة، وتقول: "أحضروا لي مزيدًا من الشّباب، لأنني لم أشف غليلي حتّى اللّحظة".
كان شباب كثيرون يتم توقيفهم أمام الحائط، وبلمح البصر ينامون نومتهم الأخيرة. كانوا يطلقون النار عليهم من مسدسات كاتمة للصّوت.
رأت سعدى شخصًا من آل كروم، ربطت إحدى رجليه بفان، والأخرى بسيارة، وقُصّ نصفان. وفي أثناء فسخه، سمعت صوت عظامه وهي تتكسر. كانوا يفرزون النّساء الكبار في السن وحدهن، والبنات الصبايا وحدهن، وفجأة يختفين. جمعوا البنات اللّواتي كنّ بين 17 حتى 25. أولئك البنات أخذن إلى جهة مجهولة لم تعرفها.
كانت أم سعدى من النّساء الجميلات، وكانت في الثلاثين عاما، وعندما علمت بذلك لبست ملابس عديدة، حتّى تظهر سمينة، كما شحبرت وجهها حتّى تبدو غير جميلة، كي لا تختفي كما اختفتِ البنات الأخريات.
هاجت سواكن الوجود، ولم تهدأ إلّا بعد أن مات النّاس جميعًا، إمّا جوعًا أو من الرّصاص الّذي اخترق أجسادهم، ورفض أن يخرج.
أمسكت أمّها يدها، وسارت بها وأخوتها بعيدًا عن طريق الموت. في الطّريق شاهدوا أم أحمد تلطم خدّيْها اللّذيْن غزاهما الجوع، فقد صمت أحمد كما صمت عُصفوره، ولم يتبق لها شيءٌ في الحياة. فقرّرتِ الموت.
أشباح اللّيل تطاردهم، حتّى العُصفور الّذي كان ينقر على نافذة أحمد مات، أخذته لعنة الرّصاص، فتّتت ريشه، ليتناثر فوق المخيّم. لم ينم اللّيل، ولم يحرس القمر في تلك اللّيلة باب بيته، بل صرخ به، ليفيق من غفوته، ويحمل جسده الضّئيل، ويفرّ من الموت.
كان القمر يشهد معركة الموت والبقاء، يسير فوق جثث الأطفال، والنّساء، والشّيوخ، ظلّ يسير معهم، يرقبهم، وكأنّه في تلك اللّحظات كان يحرس من بهم ألم.
بدأ الحصار على المخيّم، صار أهله كنحلاتٍ أصابها الهذيان، فرّوا منه خوفًا من الموت. جاعوا فاقتحموا معمل الغرة، لإحضار الطعام منه، فقد كان معملًا للتّمر والعدس.
تريد أم أحمد أن تطعم ولدها الوحيد. أحمد لم يتجاوز السّابعة من العمر، كان حزينًا على عُصفوره، فقد صمت لسكوته. لم يطلب الطّعام والماء، بل ظلّ صامتًا.
نقعت أم أحمد العدس بالماء وأوهمت ابنها بأنه طحين، وجبلته كما تجبل الطّحين، ووضعته على "صاجة"، وخبزته، علّ ابنها أحمد يأكل.
غالبيّة الشباب كانوا يفركون أوراق الشّجر اليابسة، ليصنعوا منه السّجائر، ويسيّحون الشّمع ويضعونه في الزّجاجات الفارغة، ويضعون فيها خيطانًا، لينير النّاس بيوتهم لأطول مدة ممكنة.
في معمل التّفاح، مات ناس كثيرون، كانوا يدخلونه ليسدوا جوعهم بما تبقى من تفّاحٍ غير مهترئ، أواهترأ نصفه.
كان بعض الشباب الّذين بقوا في المخيّم يخرجون على شكل مجموعات، لإحضار الطّعام لمن تبقّى في المخيّم. كان بعض الشباب يعودون سالمين، وآخرون يعودون محمّلين على حمالة.
كان بيت سعدى قريبًا من المعمل، وكانت ترى أولئك الشّبّان الّذين يأتون ليستريحوا قرب بنايتهم من المعارك. كانوا يذهبون لإحضار الماء من البئر، فمنهم من كان لا يرجع، ومنهم من يرجع وقد خسر عضوًا من أعضاء جسده.
تبعثرت أجزاء النّاس، تتقاذفهم بحار لا ضفاف لها، فخرجوا من المخيم. كانت شاحنات النّقل تجرّ أبناء بعض ممن كانوا في الشّاحنة، وتذكر سعدى أنّها شاهدت امرأة من بعلبك كانت عددصا من الشّباب بعصا رفش. كانت تمسك الشّاب من شعره، وتنزله إلى الأرض، ومن ثمّ تضربه الضربة القاتلة، وتقول: "أحضروا لي مزيدًا من الشّباب، لأنني لم أشف غليلي حتّى اللّحظة".
كان شباب كثيرون يتم توقيفهم أمام الحائط، وبلمح البصر ينامون نومتهم الأخيرة. كانوا يطلقون النار عليهم من مسدسات كاتمة للصّوت.
رأت سعدى شخصًا من آل كروم، ربطت إحدى رجليه بفان، والأخرى بسيارة، وقُصّ نصفان. وفي أثناء فسخه، سمعت صوت عظامه وهي تتكسر. كانوا يفرزون النّساء الكبار في السن وحدهن، والبنات الصبايا وحدهن، وفجأة يختفين. جمعوا البنات اللّواتي كنّ بين 17 حتى 25. أولئك البنات أخذن إلى جهة مجهولة لم تعرفها.
كانت أم سعدى من النّساء الجميلات، وكانت في الثلاثين عاما، وعندما علمت بذلك لبست ملابس عديدة، حتّى تظهر سمينة، كما شحبرت وجهها حتّى تبدو غير جميلة، كي لا تختفي كما اختفتِ البنات الأخريات.
هاجت سواكن الوجود، ولم تهدأ إلّا بعد أن مات النّاس جميعًا، إمّا جوعًا أو من الرّصاص الّذي اخترق أجسادهم، ورفض أن يخرج.
أمسكت أمّها يدها، وسارت بها وأخوتها بعيدًا عن طريق الموت. في الطّريق شاهدوا أم أحمد تلطم خدّيْها اللّذيْن غزاهما الجوع، فقد صمت أحمد كما صمت عُصفوره، ولم يتبق لها شيءٌ في الحياة. فقرّرتِ الموت.