-1-
الأحد، السابعة صباحًا. أنا الآن في الطابق العلوي أحكّ أنفي وأتفرّج على أطفال يتراشقون بقشور الليمون أمام عمارة الحياة. العالم يبدو من البلكونة أروع بكثير لدرجة يغري بالانتحار. الجيران طيبون ماعدا الجارة السمينة التي تدلك العجينة وتشعل الموسيقى في السادسة صباحًا. أكرهها وأنتظرك لنواصل الحياة معًا، سأبني لك قصورًا من شوكولاطه وأدخل المقهى المجاور لأتركها تسقط فوق رأسك. لا أدري كيف انغرست فيك طويلاً حتى صرتُ بسبك مهمومًا وشاردًا كأيّ شاعر كوني. الشّاعر الذي يلتهم الكثير من الرغيف ويشتم الوزارات والأحزاب قبل أن يشتم نفسه في الدَرج الأخير من سلّم الوظيفة. ولا أعرف كيف أدغدغ خاطري وأبتسم كأيّ طفل متصالح مع الذباب.
أزرّر قميص الصباح وأنتظر هديّة. قارورة عطر فصيح أو رواية لم يفكر فيها هيمنجواي أو حليم بركات. يا الله أين تحملني دسائس الأبراج؟ لقد صعدتُ عميقاً وصار بمستطاعي أن أرشق العالم بحبّات الطماطم الفاسدة. لم يعد لدي ما أخسره. هذا وجهي المدعوك في قرص الحداثة. وهذه صورة العائلة التي انقرضت مثل ديناصورات قديمة. سأنام بعد ذلك هادئا كمجرم ثخين تاركًا الجثث تطاردني في الطرقات مثل اشاعةٍ ملوّنة.
-2-
عنوان الأشخاص والأشياء هو ما يخذلني في كل مرّة فأتألم. عنوان المرأة الأولى واللمسة الأولى والرائحة الأولى. عنوان القصيدة الذي أرهق رأسي وأعصابي، والذي بسببه ما زالت القصيدة متدليّة مثل جثة بهيمة بلا رأسٍ في حانوت قصّاب. قبور الأحبّة والخلّان والتي من كثرة تدفق الموتى صارت مثل أطلال دارسة في قصيدة جاهليّة. وأشياء أخرى دقيقة جدّاً وغير مرئية، مثل رفّة جفن في الظلام والتي يتعذّر فهمها من طرف الصيارفة والأطباء وأساتذة الرياضيات.
أمّا الله فيكفي أن يأتي الليل لأرفع رأسي إلى السماء كي أتأكد أنه وحده ما زال في مكانه. هناك من يقول إنّ الله يوجد في كلّ مكان، ويسير جنبًا إلى جنب مع النّاس في الأسواق ويجلس معهم حول الطاولات في المقاهي دون أن يأكل أو يشرب شيئاً، لكن لم يحدث اطلاقاً أن سمعت أنّ الله لطم لصّاً على وجهه أو جرّد رئيس دولة من سرواله ونكّل به في ساحة عموميّة، أو سكب سطل ماء ساخن على آخر وسلق خصيتيه أمام كاميرات العالم. هذا يعني أن الله رحيم جدّاً بعباده أكثر ممّا يعني أنّ كاتب هذه السطور ملحد وشكّاك.
-3-
لم أحبّ منذ أعوامٍ أو على الأصح أحببتُ باقتضاب وبمقاس بخيلٍ عندما كنت منافقًا في مشاعري طوال السنوات الأخيرة كجميع الحكومات العربيّة، منافقًا بوجهين، ومثل مجموعات "الواتساب" لبعض المؤسسات التعليميّة التي تقرأ فيها " جمعة مباركة " و " إنا لله إنّا إليه راجعون" وهلم هذرًا!!
ومع كلّ هذا كتبت قصائد في الحبّ، أو هكذا أخالها حدّ أن توفّر لديّ كتاب شعري في هذا الشأن، وبحجم كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي. هذا عمل جيّد، لكن أخاف أن تسوء أحوال البلاد، بلادي وبلادكم، في قادم الأعوام وتندلع حروبٌ كثيرة ويفرّ حكّام عرب وأفارقة إلى جزر بعيدة ليتقابلوا على بقيّة سعادة كطيور كاسرة تاركين شوارع الوطن الوسيعة وأزقته الخلفيّة تكتظ بجثث أدمية، فيما تفوح رائحة الموت في الأجواء، ويظهر معطوبون وجرحى في صوّر أكثر من جريدة، وتنكّس الأعلام فوق سطوح الوزارات والبرلمانات الغشّاشة.
أن تحدث القيّامة برفّة رصاصة، ويظهر عزرائيل جوّالا بعكّاز ولحية بيضاء. أن تصير قصائدي التي كتبتها في الحب مجرّد بولة حزينة في امتحان شفوي. مجرّد قشّة تبنٍ في معطف فلاح ماتت زوجته وأولاده اختناقا بالغاز.
أو مجرّد زرّ منزوع من وزرة تلميذة الإبتدائي الواقفة بحيرة المسافر بين السابعة صباحًا والثامنة ألمًا. وأن يخرج القارئ، في النهاية، من معطف غوغول وينعتني بالتّافه وبأنّي خارج المرحلة. وربمّا ظهر ناقدٌ بقسوة عبّاس محمود العقاد وجرّب على قصائدي جميع المناهج النقدية القديمة والحديثة قبل أن ينعتني بالعدميّة والإسفاف الشّعري.
-4-
الجو ممطر. ملابسي مبتلة، تختلط فيها رائحة القهوة برائحة المطر. شعري مبلل ولاصق بجبهتي كأن بقرة ظريفة مرّرت لسانها عليه وتراجعت إلى الخلف لتضحك فوق قطعة جبن، حذائي الجديد ينفلت من قدمي ويسبب لي عرجًا خفيفًا وأنا أمشي. ظلام مزعج في بلكونة المقهى. وحدي أناضل ضدّ النادل كي يُشعل المصابيح. من يمدّ ظهره لي ويوصلني إلى أرض الحبيبة ؟ أنا متعب وضرير يا أمّي !
-5-
اثنتا عشرة طاولة، كلّ طاولة بثلاثة كراسٍ. خمس طاولات تطل على مرأب سيارات سكان العمارة من نوافذ صغيرة،على الشقق التي نبتت مكان حديقة الأطفال، المنصوبة في الهواء مثل سرادق بلا أوتادٍ على الأصح. السبع طاولات الأخرى تطل على الفناء الداخلي للمقهى، على التلفاز المستطيل وعلى الزبناء الجالسين في الصّف الأمامي بالتحديد .
أصف لكم بلكونة "مقهى الحاج "، الحاج الذي بدأ حياته سائق سيارة إسعاف في مشفى عمومي بمدينة شمالية، يرتّب أكياس الحشيش في السّيارة وينطلق فاسحًا الطريق بصفّارة إنذار. انكشفت حيلة الحاج الموهوب فدخل السجن بعد أن راكم ثروة كبيرة. خرج بعد فترة وفتح هذا المقهى وسط المدينة، قريبًا من الأبناك ومؤسّسات التعليم الحر .
خارج أوقات الدوام المدرسي وفترة الامتحانات، تظل البلكونة شبه فارغة. يأتي رجال الشرطة في الصباح، يتناولون فطورهم وينصرفون. تأتي أيضًا سهام موظفة البنك التجاري لتشرب قهوة وتغادر نازلة الأدراج مثل بطل همام. أحبّ صباحات سهام، هدوءها المغلف بالأسرار والحكايات، طريقتها في التدخين والخاتم الذهبي الذي يشّع في أصبعها، الخاتم الذي سرقه كارلوس فوينتس من أصبع ميّت في قصّة حسن بلاسم.
أحبّ مقهى الحاج في أول ساعات النهار، وفي المساء قبل الإغلاق بساعةٍ كما هو الحال الآن. فالقهوة هنا جيدة، تفتح مسارب التفكير أمامي وأقلبّ الأفكار على وجهها وظهرها فأجدها متماسكة وقويّة. تسعفني،أيضًا، المخيلة فأضحك في داخلي على أشياء كثيرة دون أن أترك لوجهي فرصة الإفصاح عن ما أضحك عليه فيما العالم يصير إسفنجة في يدي. إسفنجة لتنظيف مقعد المرحاض وأخرى لتنظيف الرأس وإبعاد الوسواس الخنّاس عنه.
-6-
تدحرج هاتفي من الجاكيت وسقط في ثقب مرحاض المقهى. وقفت محتاراً فتذكّرت خطبة طارق بن زياد "أين المفرُّ؟! البحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم" .. دسست يدي داخل تجويف الثقب فأخرجت الهاتف في حالة يرثى لها. غسلت يدي بالصابون، نظرت إلى وجهي في المرآة وابتسمت. عدت إلى الطاولة، ارتشفت من فنجان قهوة فشعرت أنني نظيف أكثر من أي وقت مضى.
-7-
أستاذ: سهرتُ البارحة إلى حدود الصباح. نمتُ ساعة واحدة فقط. نعم، أفرغتُ في جوفي مشروباً أحمق ومارست الحب مع فتاة حتّى تصاعد لهاثي وخرج لساني مثلما أنا عليه الآن. وجلست أتكلّم مع نفسي وأحصي قمصاني بالآلة الحاسبة. قرأت في كتابِ ساعتين وأكثر. شربت نصف لتر من القهوة. فعلتُ كل هذا قبل أن أدسّ الزوبعة في سترتي الرياضية وأصل إليك في هذه الساعة المبكّرة.
أستاذ الرياضة الأصلع: لماذا تريد أن تحوّلني إلى بغلٍ حقيقي، وأركض بشكل دائري وأحمل أقراص الحديد كما لو أنّ حياتي تنقصها القسوة والألم، أنا أتألم وأنت تبتسم ؟
-8-
يتغيّر كثيرون ،خلال شهر رمضان، من حالٍ إلى حال..
الآباء القساة إلى آباء حقيقيين بعيونٍ متاسمحةٍ وحنان مفاجئٍ.
أئمة المساجد،الذين ينكحون الصبيان ويدخنون الكيف في الجيال البعيدة، إلى وعاظ ومرشدين.
الوزراء ولصوص المال العام، الذين يشربون دماء الشّعب والويسكي الأسكتلندي في جماجم الفقراء، إلى مستمعين متأدّبين في الدروس المحمّدية.
القتلة وبقية مجرمي الانتخابات والزاوايا المظلمة إلي رياضيين ببذلات نظيفة وملامح مريحة.
التجار، الذين يبيعون الوهم والكلاب الميتة في الأسواق، إلى مخلوقات أخرى بميزان عادلٍ مترفّعين عن أوساخ الحياة الفانيّة.
المزمّرون في الأعراس والمراقص السفليّة إلى مرتّلين جيدّين لآيات من الذكر الحكيم.
مرضى السكري بأعصابهم المتلفة طوال العام، إلى مواطننين صبورين ومتفهمين.
الجيران ومن على شاكلتهم، من الغموض والغطرسة إلى آخرين مبادرين في القاء التحيّة والتضامن، وكل شيئ تقريباً.
الجدّات الغاضبات لأتفه الأسباب إلى أخريات صامتات بمسبحةٍ في اليد وتمتمات غير مفهومة.
-9-
لا أحفظ من زعماء اليسار إلا مقدار ما أحفظه من قصار السور للاحتماء بها وقت الحاجة. ولم أقرأ الكثير عن الديمقراطية الاشتراكية. ولا أي شيء تقريباً عن الليبرالية الاجتماعية.
ولا أعرف عن الثورة الفرنسية إلا ما وصلني من فم أستاذ التاريخ. ولكن أشعر، رغم هذه النواقص الفكرية والثقافية، أنني يساري بالفطرة. وبقليل من الصدفة أيضًا عندما وجدت نفسي أخط الحروف وأرسم باليد اليسرى .أركل الكرة باليسرى. أنام على جانبي الأيسر.
ولولا حرجي لقلت إن علاقتي الحقيقية باليسار تعزّزت يوم اكتشفت النهد الأيسر كما اكتشف كريستوف كولومبوس أمريكا. وجدته قريباً من عروق القلب ومن ذائقتي الشخصية. صريحًا ومظلومًا مثلي. متأهباً مثل الباطل. متمرداً على الكمّامات الضيقة وعلى أحاسيس وكليشيهات البرجوازية الباردة.
وهل اليسار غير هذا الشعور الجارف بالظلم، والتأهب في الأفكار والمواقف. غير هذا التمرد والعصيان المدني والتواجد المستمر وسط الجماهير؟
-10-
يأتي الليل لأتخاصم مع زوجتي بسبب أمورٍ صغيرة ..
فتح النافذة وإزاحة الستائر جانبًا أم استجداء الرومانسيّة بالأباجورة والموسيقى ؟
أخذ حمّام ساخن سويّا أم بالتتابع مثل طلاب الأقسام الداخليّة ؟
النوم على الأرضيّة على طريقة الأجداد أم على سرير مرفوع بأربعة أرجل؟
الذهاب إلى الحب مشيًا على الأقدام أم ركوبًا في طاكسي أبيض ؟
إلهي كن بجانبي هذه الليلة، واجعل الشيطان جنب زوجتي.
* كاتب من المغرب