22 أكتوبر 2024
الكاميرا الخفيّة حين تكشف عوراتنا
لم أستسغ يوماً البرامجَ التي تدّعي الإضحاك، وتكون مادة الطرافة فيها موقفاً يورّط أشخاصاً "لا ناقة لهم ولا جمل". ولم يُضحكني يوماً أن يستلم شخصٌ "عارفٌ" آخر "غير عارف"، فيستولي على عدم معرفته تلك، ويستغلّها ليتلاعب به، بهدف إضحاك طرفٍ ثالث، تجعله مشاهدتُه ما يجري في صف "العارف" والمتواطئ. فكيف تراها تكون الحال حين يكون "العارف" هو أقلّ الأقنية التلفزيونية حرفيةً وأدناها مستوى (أو تي في)، لكي لا نقول أكثرها جهلاً وإسفافاً، ويكون "غيرُ العارف" شاباً قيل إنه لاجئ سوري، وقد تمّ استفزاز كلّ الهلع والإذلال الكامنيْن فيه من ماضيه مواطناً سوريّاً، وكلّ الاضطراب والعجز اللذيْن يسكنانه حاليا لاجئاً في لبنان.
ومما لا ريب فيه أن بعض تلك البرامج التلفزيونية التي يمكن جمعها تحت عنوان "الكاميرا الخفية" تتفاوت طرافةً وخفة، أو سماجة وثقلاً وانحطاطا، إلا أنها، في مجملها، وعلى الرغم من تباين نوعية المواقف أو المقالب التي ترتكز عليها، تحكي الكثير عن أحوال المجتمع الدائرة فيه، إذ إنها، بغير قصدٍ منها، تعبّر عن مساوئه وحسناته، عبر وضعها حدوداً واضحةً فيه للمتاح وغير المتاح، أي للمقبول وغير المقبول، في القانون والاجتماع والأخلاق وسواها. بهذا المعنى، يبدو غنياً عن القول إن برنامجاً كهذا سيكون مستحيل المرور على الشاشة الصغيرة في الدول السويّة والمتحضّرة.
في الحلقة التي عُرضت مساء السبت الفائت على محطة "أو تي في" اللبنانية، ضمن برنامج "هدّي قلبك"، والذي يعدّه ويقدمه مرسال خضرا، وقع المقلبُ على شابٍّ، يدعى أحمد، تم توظيفه للتوّ عاملاً في حلبة كارتينغ، فإذا به بعد قليلٍ يصادف حاجزا مسلّحاً، يطلب منه أوراقه، قبل أن يمعن في إرعابه والتهويل عليه، وإجباره على الركوع، وخلع ثيابه، والقيام بأمور أخرى مستفزة ومذلّة، وهو ما استدعى تعليقاتٍ عديدة، مستنكرة ومندّدة، ومطالبةٍ بوقف البرنامج بشكل نهائي.
طبعا، قد لا يدرك خضرا، لبلادته وغبائه، خطورة ما قام به، هو الذي برّر أنه لم يكن يدرك أن العامل سوريّ الجنسية، وهو قد لا يكون في هذا كاذباً بشكل تامّ، لأن العامل لم يكن ينطق بلهجةٍ سوريةٍ واضحة. لكن، لا بد من أنه قد هجس بجنسيته غريباً في موضعٍ ما، لإدراكه أنه لا يمكن للبنانيّ خـَبِـر الحواجزَ المسلّحة خلال الحرب الأهلية أن يكون صاحب ردّ فعل مماثل. والحال أننا لا نسوق ذلك في معرض تبجيل المواطن اللبناني الذي خبر الخوف والإذلال والموت يومياً على الحواجز، سواء كانت المليشيات هي من يقيمها، أو عناصر الجيش الأسديّ، كما أنه ليس تبخيساً أو تحقيراً بحق اللاجئ السوريّ المستضعف، والمستهدف في مأساته وغربته وشقائه، كما في ماضيه الفائض قمعاً واستبداداً وهواناً ومصادرة قرار.
هذا وفي ردود الأفعال التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، فتراوحت بين حدّي الاستنكار والشجب والإدانة، والشتيمة والتهديد والوعيد، فاحت رائحةٌ عنصريةٌ ما لم ينجُ منها الطرفان، اللبناني والسوري على السواء. فمن المجحف القول إن الشعب اللبناني كلّه عنصري وكاره ومتعال، أو إن السوريين لا يشعرون بأي عنصريةٍ أو كراهيةٍ حيال اللبنانيين، إذ يكفي التذكير بأن شعباً تم احتلاله، والتنكيل به، وامتصاص دمائه، وخطف أبنائه واغتيالهم، وتخريب مؤسساته، إلخ، خلال 30 عاماً من الجيش الأسدي، هو نفسه الذي يتعايش اليوم مع أكثر من ثلث عدده من اللاجئين، من دون أن تسجَّل، إثر ذلك، حوادثُ اقتتال فعلية، أو وقائع دموية كالتي تسجّل عادة في مثل تلك الحالات. وكما أنه ينبغي التمييز بين الجيش الأسدي والشعب السوري، ربما لزم أيضا التمييز بين نظرة "الفوق" إلى اللاجئين، لأنها ليست دائما نظرة "التحت"، حيث يوجد حدّ أدنى من التعايش، يفرضه سوء الأوضاع ووحدة الشقاء.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أننا، نحن اللبنانيين، في ما بلغناه اليوم من عفنٍ واهتراء، وفي بعض ما يقوله لنا برنامجُ محطة "أو تي في" المذكور عن تدهور أحوالنا، ماضون في لعب لعبتنا الأثيرة أمام أنفسنا، ألا وهي روليت روسية، نطلق رصاصتها الأخيرة بين أعيننا.
ومما لا ريب فيه أن بعض تلك البرامج التلفزيونية التي يمكن جمعها تحت عنوان "الكاميرا الخفية" تتفاوت طرافةً وخفة، أو سماجة وثقلاً وانحطاطا، إلا أنها، في مجملها، وعلى الرغم من تباين نوعية المواقف أو المقالب التي ترتكز عليها، تحكي الكثير عن أحوال المجتمع الدائرة فيه، إذ إنها، بغير قصدٍ منها، تعبّر عن مساوئه وحسناته، عبر وضعها حدوداً واضحةً فيه للمتاح وغير المتاح، أي للمقبول وغير المقبول، في القانون والاجتماع والأخلاق وسواها. بهذا المعنى، يبدو غنياً عن القول إن برنامجاً كهذا سيكون مستحيل المرور على الشاشة الصغيرة في الدول السويّة والمتحضّرة.
في الحلقة التي عُرضت مساء السبت الفائت على محطة "أو تي في" اللبنانية، ضمن برنامج "هدّي قلبك"، والذي يعدّه ويقدمه مرسال خضرا، وقع المقلبُ على شابٍّ، يدعى أحمد، تم توظيفه للتوّ عاملاً في حلبة كارتينغ، فإذا به بعد قليلٍ يصادف حاجزا مسلّحاً، يطلب منه أوراقه، قبل أن يمعن في إرعابه والتهويل عليه، وإجباره على الركوع، وخلع ثيابه، والقيام بأمور أخرى مستفزة ومذلّة، وهو ما استدعى تعليقاتٍ عديدة، مستنكرة ومندّدة، ومطالبةٍ بوقف البرنامج بشكل نهائي.
طبعا، قد لا يدرك خضرا، لبلادته وغبائه، خطورة ما قام به، هو الذي برّر أنه لم يكن يدرك أن العامل سوريّ الجنسية، وهو قد لا يكون في هذا كاذباً بشكل تامّ، لأن العامل لم يكن ينطق بلهجةٍ سوريةٍ واضحة. لكن، لا بد من أنه قد هجس بجنسيته غريباً في موضعٍ ما، لإدراكه أنه لا يمكن للبنانيّ خـَبِـر الحواجزَ المسلّحة خلال الحرب الأهلية أن يكون صاحب ردّ فعل مماثل. والحال أننا لا نسوق ذلك في معرض تبجيل المواطن اللبناني الذي خبر الخوف والإذلال والموت يومياً على الحواجز، سواء كانت المليشيات هي من يقيمها، أو عناصر الجيش الأسديّ، كما أنه ليس تبخيساً أو تحقيراً بحق اللاجئ السوريّ المستضعف، والمستهدف في مأساته وغربته وشقائه، كما في ماضيه الفائض قمعاً واستبداداً وهواناً ومصادرة قرار.
هذا وفي ردود الأفعال التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، فتراوحت بين حدّي الاستنكار والشجب والإدانة، والشتيمة والتهديد والوعيد، فاحت رائحةٌ عنصريةٌ ما لم ينجُ منها الطرفان، اللبناني والسوري على السواء. فمن المجحف القول إن الشعب اللبناني كلّه عنصري وكاره ومتعال، أو إن السوريين لا يشعرون بأي عنصريةٍ أو كراهيةٍ حيال اللبنانيين، إذ يكفي التذكير بأن شعباً تم احتلاله، والتنكيل به، وامتصاص دمائه، وخطف أبنائه واغتيالهم، وتخريب مؤسساته، إلخ، خلال 30 عاماً من الجيش الأسدي، هو نفسه الذي يتعايش اليوم مع أكثر من ثلث عدده من اللاجئين، من دون أن تسجَّل، إثر ذلك، حوادثُ اقتتال فعلية، أو وقائع دموية كالتي تسجّل عادة في مثل تلك الحالات. وكما أنه ينبغي التمييز بين الجيش الأسدي والشعب السوري، ربما لزم أيضا التمييز بين نظرة "الفوق" إلى اللاجئين، لأنها ليست دائما نظرة "التحت"، حيث يوجد حدّ أدنى من التعايش، يفرضه سوء الأوضاع ووحدة الشقاء.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أننا، نحن اللبنانيين، في ما بلغناه اليوم من عفنٍ واهتراء، وفي بعض ما يقوله لنا برنامجُ محطة "أو تي في" المذكور عن تدهور أحوالنا، ماضون في لعب لعبتنا الأثيرة أمام أنفسنا، ألا وهي روليت روسية، نطلق رصاصتها الأخيرة بين أعيننا.