في ثلاثين دقيقة يختصر وثائقي "نساء الخلافة: السجن أو الموت" حيوات عشرات نساء تنظيم "داعش" الإرهابي بهزات رؤوسهن التي لا تنتهي ونظراتهن الباحثة. التيه الذي ما لبث أن بددته أحياناً اللغة الأجنبية برز مثل بوصلة في يومياتهن. فهن لا يكدن ينطقن. لغاتهن التي تعرّفن بها إلى الإسلام جئن بها كالبكم إلى الصحراء البعيدة.
عشن بين مقاتلين ونازحين وعلى متن ميكرو باصات مكتظة بالهاربين والناجين والمندسين أيضاً. فالحروب لا تولد إلا هذا الخرس. نساء معلقات. لا نطق لهن إلا الإشارات القليلة. وربما لأن مراسلي قناة "فرانس 24" يتحدثون لغات مختلفة وجدن فرصتهن للبوح، ليطلن أحياناً جملهن؛ فواصل الخوف فيها، البراءة أحياناً والتلاعب، إظهار نوايا هدفها عبر هذه الكاميرا قول شيء ثابت إنهن نادمات وخائفات ومشتاقات إلى حياة ما قبل "داعش".
هذا ما تقوله بعضهن عن اشتياق لحياة عادية في بلادهن الأوروبية: فرنسيات، وروسيات، وسويديات، وألمانيات وتركيات. لغات ولهجات تمايلت الكاميرا بينها، محاولة التقاط ما يعشنه بكلمة واحدة تضاف إلى سلسلة صفاتهن في هذه اللحظة الفارقة من حياتهن، ألا وهي: معلقات. فبعضهن أرملات، وبعضهن تركن الرجال في آخر جيب قتالي لهم. حملن متاعاً بسيطاً، أو ربما فارغات الأيدي دخلن المخيم الجديد. قواعد صارمة وتفتيش يومي. بيانات وصور وبصمات أصابع يظهرن أمامها ببؤس وتحدّ.
وقد حاولت عدسة الكاميرا الاقتراب منهن بحيادية من دون التورط في أحزانهن وغضبهن، وهذا أقل ما يمكن فهمه في العمل التوثيقي. لكن هذا التقرير على شموليته ترك أسئلة حائرة حول المصائر المتروكة لأجنبيات لم يجدن "أحلام الدولة الإسلامية" كما تراءت لهن قرب نهر الفرات.
القصة الأبرز التي سلّط التقرير الضوء عليها هي قصة ماتيلد. امرأة فرنسية لا ملامح لها سوى عينيها المخفيتين وراء النقاب الأسود الذي بقعته رمال الصحراء، ورحلة النزوح والاستسلام لتحطّ رحالها مع نساء أخريات يتلعثمن بلغاتهن المحلية وحيرتهن في خيمة أشبه بسجن يتقاسمن فيه الخوف. الخوف من أشياء كثيرة: القصف والقناصة والاغتصاب والموت. وما يتبدى من الخوف أيضاً شعورهن بالتهديد من زميلاتهن اللواتي يطلق عليهن لقب "المتطرفات".
فتكرر إحداهن متخفية خلف اهتزاز العدسة: "إذا حكينا ضد تنظيم الدولة سيحرقون لنا خيمتنا". وهذا تفصيل مهم عبّر عنه التقرير، من خلف الألبسة الشرعية. رعب من التنظيم. من أثره. وعلى الرغم من أنهن جزء منه ومن معاركه وزيجاته ونسيجه، إلا أنهن ظهرن في تأتأتهن الخائفة يتملصن منه. تركته السوداء في حياتهن التي تحولت إلى خيار، كما يعنون التقرير: "السجن أو الموت؟".
ولأن بعضهن لا يردن الموت سلّمن أنفسهن ليلتحقن ببلادهن التي ستسجنهن بالتأكيد. 10 سنوات على الأقل، كما تقول مايسة عواد في التقرير (النسخة العربية)، عن الحكم الذي صدر في فرنسا بحق ماتيلد. حياة طبيعية هذه الفرضية يعاكسها مقاتلو الكرد. المسؤولون حالياً عن أوضاع هؤلاء النسوة في "مخيم الهول".
يقول المسؤول الإعلامي في المخيم إنهن "سلمن أنفسهن بأمر من رجالهن. يفترض أنهن سيعدن إلى بلادهن وسيقوين ثم سيلتحقن بمعارك جديدة أو بدعم (ما) لـ (داعش)". هذا ما تنفيه ماتيلد الفرنسية، إذ تقول: "النساء اللواتي يرغبن في العودة إلى فرنسا هدفهن ليس القيام بعمليات إرهابية أو قتل إنسان ما في متجر. نريد أن نعود ونعيش حياة طبيعية".
الخوف البارز في سكنات النساء تقاومه ماتيلد بلغتها الفرنسية الطلقة. تشرح بعقلانية لعلمها أن ما سيقال سينتشر وسيبث. بدت ثرثرتها أمام أسئلة الصحافيين أشبه بإعلان جريء عن أنها لا تنتمي إليهم. لكن هذه الثرثرة سرعان ما تتحول إلى ما نطق بعد طول صمت. شيء من بوح خفي تريد هذه الفتاة أن تخرج منه غضبها من نفسها أولاً، لأنها تورطت في بيئة لا تشبه الاعتقاد الذي حملته معها عن الإسلام أولاً، والخلافة ثانياً. مثلها مثل ليزا، السويدية التي لم تتوقف عن البكاء وهي تبلع غصاتها لأنها فقط تريد أن تعود إلى حياتها السابقة.
تريد العودة إلى "نعيم" أوروبا الذي ولدت فيه، وإلى حياة عائلية عادية ومملة في بعض الأحيان. لكن كل رحلة الكلام مع النسوة والمقاتلين يستقطعها حضور ماتيلد. تعود في أجزاء التقرير مراراً. تتحدث إلى موفدي "فرانس 24" بلغتها الفرنسية وكأنها اشتاقت إلى لغتها الأم. وبين التلعثم أحياناً في غصات شاردة ودموع تشربتها القماشة السوداء المتسخة، تظهر ماتيلد ضحية من ضحايا الأجنبيات اللواتي اكتشفن أن الجنة الموعودة لم تكن سوى جحيم تمنين لو كان مجرد كابوس.
وبين ماتيلد والكاميرا شيء من الودّ نكتشفه في طريقة تعبيرها (ولو لفظياً)، وهي تشير بغصة وألم: "أريد العودة إلى فرنسا". الوثائقي الذي أعد على طريقة "الربورتاج" المكثف يتعامل مع مادته بحياد لا تموت فيه إنسانيته. فبين عدم الانحياز وتقديم كل وجهات النظر تتسرّب أوجاع تلك النسوة وكأنهن يقلن "عاملونا هذه المرة كبشر"، أو كضحايا. لكن لا تعيدونا إلى الوراء.
عشن بين مقاتلين ونازحين وعلى متن ميكرو باصات مكتظة بالهاربين والناجين والمندسين أيضاً. فالحروب لا تولد إلا هذا الخرس. نساء معلقات. لا نطق لهن إلا الإشارات القليلة. وربما لأن مراسلي قناة "فرانس 24" يتحدثون لغات مختلفة وجدن فرصتهن للبوح، ليطلن أحياناً جملهن؛ فواصل الخوف فيها، البراءة أحياناً والتلاعب، إظهار نوايا هدفها عبر هذه الكاميرا قول شيء ثابت إنهن نادمات وخائفات ومشتاقات إلى حياة ما قبل "داعش".
هذا ما تقوله بعضهن عن اشتياق لحياة عادية في بلادهن الأوروبية: فرنسيات، وروسيات، وسويديات، وألمانيات وتركيات. لغات ولهجات تمايلت الكاميرا بينها، محاولة التقاط ما يعشنه بكلمة واحدة تضاف إلى سلسلة صفاتهن في هذه اللحظة الفارقة من حياتهن، ألا وهي: معلقات. فبعضهن أرملات، وبعضهن تركن الرجال في آخر جيب قتالي لهم. حملن متاعاً بسيطاً، أو ربما فارغات الأيدي دخلن المخيم الجديد. قواعد صارمة وتفتيش يومي. بيانات وصور وبصمات أصابع يظهرن أمامها ببؤس وتحدّ.
وقد حاولت عدسة الكاميرا الاقتراب منهن بحيادية من دون التورط في أحزانهن وغضبهن، وهذا أقل ما يمكن فهمه في العمل التوثيقي. لكن هذا التقرير على شموليته ترك أسئلة حائرة حول المصائر المتروكة لأجنبيات لم يجدن "أحلام الدولة الإسلامية" كما تراءت لهن قرب نهر الفرات.
Twitter Post
|
القصة الأبرز التي سلّط التقرير الضوء عليها هي قصة ماتيلد. امرأة فرنسية لا ملامح لها سوى عينيها المخفيتين وراء النقاب الأسود الذي بقعته رمال الصحراء، ورحلة النزوح والاستسلام لتحطّ رحالها مع نساء أخريات يتلعثمن بلغاتهن المحلية وحيرتهن في خيمة أشبه بسجن يتقاسمن فيه الخوف. الخوف من أشياء كثيرة: القصف والقناصة والاغتصاب والموت. وما يتبدى من الخوف أيضاً شعورهن بالتهديد من زميلاتهن اللواتي يطلق عليهن لقب "المتطرفات".
فتكرر إحداهن متخفية خلف اهتزاز العدسة: "إذا حكينا ضد تنظيم الدولة سيحرقون لنا خيمتنا". وهذا تفصيل مهم عبّر عنه التقرير، من خلف الألبسة الشرعية. رعب من التنظيم. من أثره. وعلى الرغم من أنهن جزء منه ومن معاركه وزيجاته ونسيجه، إلا أنهن ظهرن في تأتأتهن الخائفة يتملصن منه. تركته السوداء في حياتهن التي تحولت إلى خيار، كما يعنون التقرير: "السجن أو الموت؟".
ولأن بعضهن لا يردن الموت سلّمن أنفسهن ليلتحقن ببلادهن التي ستسجنهن بالتأكيد. 10 سنوات على الأقل، كما تقول مايسة عواد في التقرير (النسخة العربية)، عن الحكم الذي صدر في فرنسا بحق ماتيلد. حياة طبيعية هذه الفرضية يعاكسها مقاتلو الكرد. المسؤولون حالياً عن أوضاع هؤلاء النسوة في "مخيم الهول".
يقول المسؤول الإعلامي في المخيم إنهن "سلمن أنفسهن بأمر من رجالهن. يفترض أنهن سيعدن إلى بلادهن وسيقوين ثم سيلتحقن بمعارك جديدة أو بدعم (ما) لـ (داعش)". هذا ما تنفيه ماتيلد الفرنسية، إذ تقول: "النساء اللواتي يرغبن في العودة إلى فرنسا هدفهن ليس القيام بعمليات إرهابية أو قتل إنسان ما في متجر. نريد أن نعود ونعيش حياة طبيعية".
الخوف البارز في سكنات النساء تقاومه ماتيلد بلغتها الفرنسية الطلقة. تشرح بعقلانية لعلمها أن ما سيقال سينتشر وسيبث. بدت ثرثرتها أمام أسئلة الصحافيين أشبه بإعلان جريء عن أنها لا تنتمي إليهم. لكن هذه الثرثرة سرعان ما تتحول إلى ما نطق بعد طول صمت. شيء من بوح خفي تريد هذه الفتاة أن تخرج منه غضبها من نفسها أولاً، لأنها تورطت في بيئة لا تشبه الاعتقاد الذي حملته معها عن الإسلام أولاً، والخلافة ثانياً. مثلها مثل ليزا، السويدية التي لم تتوقف عن البكاء وهي تبلع غصاتها لأنها فقط تريد أن تعود إلى حياتها السابقة.
تريد العودة إلى "نعيم" أوروبا الذي ولدت فيه، وإلى حياة عائلية عادية ومملة في بعض الأحيان. لكن كل رحلة الكلام مع النسوة والمقاتلين يستقطعها حضور ماتيلد. تعود في أجزاء التقرير مراراً. تتحدث إلى موفدي "فرانس 24" بلغتها الفرنسية وكأنها اشتاقت إلى لغتها الأم. وبين التلعثم أحياناً في غصات شاردة ودموع تشربتها القماشة السوداء المتسخة، تظهر ماتيلد ضحية من ضحايا الأجنبيات اللواتي اكتشفن أن الجنة الموعودة لم تكن سوى جحيم تمنين لو كان مجرد كابوس.
وبين ماتيلد والكاميرا شيء من الودّ نكتشفه في طريقة تعبيرها (ولو لفظياً)، وهي تشير بغصة وألم: "أريد العودة إلى فرنسا". الوثائقي الذي أعد على طريقة "الربورتاج" المكثف يتعامل مع مادته بحياد لا تموت فيه إنسانيته. فبين عدم الانحياز وتقديم كل وجهات النظر تتسرّب أوجاع تلك النسوة وكأنهن يقلن "عاملونا هذه المرة كبشر"، أو كضحايا. لكن لا تعيدونا إلى الوراء.