الكلاسيكو.. لا تصدّق كذبة الروح الرياضية

03 ديسمبر 2016
(تصوير: بول غيلام)
+ الخط -

تدق الآن ساعة "الكلاسيكو"، ثاني أكثر مباراة مشاهدة بمعدل 500 مليون مشاهد. تسبقها مباراة واحدة فقط هي نهائي كأس العالم في مونديال البرازيل بين الأرجنتين وألمانيا بما يقارب 700 مليون مشاهد.

"الكلاسيكو" هذه اللعبة التي لا مكان فيها للموضوعية ولا للمنطقة الرمادية، حتى ولو لم تكن من مشجعي الفريقين، أو حتى لو كنت غير مهتمٍ بكرة القدم أصلًا ولا تشاهد مباريات هذه الرياضة الرائعة.

أشجّع ريال مدريد منذ 17 عامًا، كنت جزءًا من موجة مشجعين انتقلوا مع زين الدين زيدان من اليوفي نحو المرينغي. عشت خلال هذه الأعوام أفراحًا كثيرة وحسرات وآلامًا أكثر. في الكلاسيكو وحده ومنذ بدايات الألفية تلقى ريال مدريد ما لا يقل عن 13 هزيمة من أصل 29 مواجهة خلال الدوري، بينها نتائج مخزية (6-2) و(5-0).

بالمقابل، فاز الفريق الذي أتعصّب له في تسع مباريات فقط. على الرغم من ذلك، كان من غير الوارد أن أخفي أو أتردد في إظهار تعصّبي للفريق الأبيض، وكنت أحوّل غضبي بعد كل خسارة، وبالذات الخسارات الكارثية، إلى وعيد بانتظار نهضة الفريق الذي عرفت أنه جدير بثقتي مهما زلّ أو كبا، ومهما تلقيت من شماتات بالجملة، حتى أن بعضها يصلني من إسبانيا ومن أصدقاء كتلان في مدينة برشلونة.

في الخسارة هناك ألم يشبه ألم الموت، حين لا يتهدم جسدك عقب الخسارة عليك أن تنتبه لنفسك، تحقق قبل أن تكون مشجعًا لفريق ما؛ هل بكيت لأي سبب يخص هذا الفريق؟ هل أحسست يومًا أن قلبك قد لا يحتمل حجم غضبك أو حسرتك؟ هل تحس بهبوط حاد حين يخسر من اخترتهم ليعيدوا لك تمثيل مهمة الصيد؟

الرياضة كما أراها لا تختلف عن اتفاق جماعي على أن نقوم بمهمة الصيد البدائية الأولى التي تعني البقاء أو الفناء، الحياة أو الموت. يقول ديزموند موريس (باحث وكاتب إنكليزي شهير في علم سلوك الحيوان) في سلسلته الخالدة "الحيوان البشري" أو بترجمة أخرى (The animal human)، وفي معرض حديثه عن علاقة الإنسان بالصيد، إن "الرياضة الاحترافية يوجد فيها كل مراحل الصيد البدائية، هناك التخطيط، التعاون الجماعي، التواصل عن بعد، المخاطرة الجسدية، المهارة، اللياقة، الشجاعة، والملاحقة والمكر، والمطاردة، وفي النهاية هناك لحظة القتل حين يطعن سلاح العشيرة فم الفريسة، ثم إن النصر في الرياضة كالنصر في الصيد يتبعه الاحتفال الصاخب والنشوة، وهناك أحيانًا تصير النشوة أكثر صخبًا فتغيب فرحة الصيد الرمزية ليظهر عنف الصيد البدائي الدفين".

بمناسبة الكلاسيكو، أتذكّر حوارًا شيقًا دار في اللقاء الأخير مع صديقي الأستاذ الراحل عمران الطرشة الجد. كان قد تحدث لي طويلًا عن تفاهة ما يُدعى "الروح الرياضية". كان حديثه عن أن الروح الرياضية تصنع منك شخصًا منصاعًا ومتقبّلًا للتنازل، وتضم في كنهها شيئًا من قبول الخصوم، والعض على الجروح بصمت، ثم لخّص الأمر بأن قال: "لو هزمتُ بلعبة ورق أو طاولة زهر ورأيتني أتقبّل الأمر لا تصدّقني، الأحرار لا يتقبلون في دواخلهم الهزيمة حتى لو كانت لعبة مع ولد صغير أو سباقًا مع حيوانك الأليف".

وبالطبع، فإن صديقي لم يكن يطلق -كما يخطر في البال- دعوة تأييد للعنف الرياضي، على العكس، كل عنف بالنسبة له ولي مُدان، ولكنه الإدراك بأن التشبث برغبة الفوز ومقاومة الخسارة، ليس ترفًا ولا رفاهًا، بل هو حافز نفسي عميق في غياهب الذات، وتداعٍ لفعل سلوك جماعي فطري أعمق بكثير من كل واجبات مواكبة الحضارة التي لا تشبهنا فعلًا.. هذه اللعبة قد تكون هي الحياة بالنسبة لمحبيها.

أليس من الغريب بالنسبة لي ولمشجعين كثر ما يقوله بعضهم إن كرة القدم مجرّد لعبة؟ أحيانًا أتلعثم وأنا أحاول تجميع الكلام ردًّا على هذه المقولة. هل كرة القدم مجرّد لعبة؟ هل انتحارنا في التشجيع وانكسارنا ورغباتنا الخفية في قتل الخصوم؟ هل هتافاتنا العالية تفاهة كما يقولون؟ هل هذا الحب الجارف لهذه اللعبة هو مجرد قّلة عقل؟ هل فعلًا أننا لا نكون على حق حين تنعدم الشهية والرغبة في المواعدة والحب والحياة بعد كل خسارة؟ وأننا على استعداد لتفجير الفرح بشكل هستيري في وجه كل شيء لمجرد فوز 11 رجلًا يلاحقون قطعة من المطاط؟ بالطبع لا.

إن أي قناعة تعادي الرياضة هي قناعة ناتجة عن عدم إدراك كنهها صحيح، ولكن الذي يقولها لا يعلم أنه يمارس هذا الطقس في كل شيء، في كل شيء نقوم بما يشبه رمزية الصيد الكبرى تلك، منذ بدايات ألعاب الأطفال التي تضم مُطارِداً ومُطارَداً، وحتى في التسوّق الذي تقوم فيه بممارسة الصيد بواسطة الكريديت كارد.

نحن حين نشجع فريقًا ما، لا نكتفي بهذا الدور الذي يظنّه بعضهم أننا نمارس المتعة والترفيه. التشجيع كما أراه هو أن تتصور نفسك موجودًا في الملعب، أن تعاني من تدفق الهرمونات واندفاع الدورة الدموية نفسه.

في تجربة ظريفة قام بها جيمس دباس (عالم نفس في جامعة ولاية جورجيا)، أخذ عينات من لعاب مجموعات مختلفة من مشجعين طليان وبرازيليين قبل وبعد انتصار البرازيل على إيطاليا في مباراة كأس العالم سنة 1994، فأظهرت النتائج أن هرمون التستوستيرون عند البرازيليين قد ارتفع بمعدل 28% بينما انخفض عند الإيطاليين الخاسرين بنسبة 27%، وهو الهرمون المعروف بهرمون الذكورة الذي يعتبر نقصه سببًا أساسيًا في الإصابة بمرض الاكتئاب، وأمراض القلب، والوهن، وضعف المناعة، واضطرابات الأيض، وضعف الرغبة الجنسية، واعتلال العظام والأعصاب.

اختر عشيرتك التي تريد لها أن تمثلك في الحرب الصغيرة، لتكن منحازًا بشكل لا يمكنك إيقافه لمن وما تحبّه، لتحارب كل دعوات تقبّل الخسارة، لا تصدّق كذبة الروح الرياضية، ولتنتظر المباراة القادمة إن كنت خاسرًا، لتأمل بالردّ الشافي، صحيح أن عليك أن تراقب ردود أفعالك، وألّا تسمح للصيّاد البدائي في داخلك أن يخلط بين رمزية الصيد في اللعبة وبين باقي السلوكيات البدائية من عنف وتخريب واعتداء على الآخرين، لكن عليك أن تكون دون ذلك بدرجة واحدة فقط، أن تحب اللعبة، أن تحب الفريق، وأن تحب نفسك، كأن الخسارة بالنسبة لك هي الموت أو الفناء، والربح هو الولادة أو الخلود.

المساهمون