تُعتبر فنون الحفر والليثوغرافيا والسيريغرافيا، وهي فروع تصويرية طباعية، من الفنون التشكيلية الأقلّ إثارة للاهتمام، رغم استنادها على ترسانة من المعارف والخبرات وتقنيات الأداء والإنجاز.
قد يرجع السبب في هذا الإهمال إلى أن هذه الفنون ظلّت، حتى وقت قريب، تستند على مبدأَي الطبع والاستنساخ وتكرار البروفات وفق تسلسل إنجازها، على عكس فن التصوير الصباغي مثلاً، الذي يتّسم بتفرّد نماذجه، بما يجعل منها أصولاً يستحيل استنساخها ولو من طرف أصحابها من الفنانين أنفسهم.
رغم التطور الذي عرفه فن الحفر الحديث، والذي صار هو الآخر يبدع نسخاً متفرّدة ووحيدة، إلا أنّ هذا الإجحاف بقي يلازمه، ما جعل فنّانين عرباً معروفين يواصلون المراهنة على الإنتاج والإبداع وفق ما تمليه عليهم ذائقتهم الفنية والجمالية.
من بين هؤلاء، يحضر اسم التشكيلي المغربي مولاي يوسف الكهفعي (1969)، الذي يتواصل عرض أعماله في "مركز عنبر للفن"، في الدار البيضاء، تحت عنوان "أعمال حفرية"، حتى 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
حرص الكهفعي على صقل تجربته في مجال التصوير الصباغي، وهي التجربة التي تقع - أسلوبياً - بين التجريد والتشخيص، عبر اللجوء إلى تقنية تشويه أشكال الكائنات والشخوص التي يقوم بمعالجتها فوق لوحته.
منذ تخرّجه من مدرسة الفنون الجميلة في تطوان مطلع التسعينيات، شارك الكهفعي في عدد من المحترفات والمعارض الفردية والجماعية، كما كانت له إسهامات في مجموعة من البيناليات الفنية داخل المغرب وخارجه. كان آخرها مشاركته في "ترينال" فنون الحفر، الذي يُقام في متحف العاصمة اليابانية طوكيو، خلال الشهر الماضي.
وسواءً تعلّق الأمر بفن التصوير الصباغي أو الحفر أو الليتوغرافيا أو الرسم، بقي هذا الفنان حريصاً على الدفع بلمسته الفنية إلى أقصاها؛ بالشكل الذي يكشف عمّا يعتبره مشاعر خفية، مضطربة وغامضة تراكمت لدى شخوص أعماله، جرّاء المعاناة التي تُكابدها في حياتها اليومية، وأيضاً من خلال وضعياتها الخائرة والمستسلمة. هذا الاقتناص لضغط وإكراهات اليومي والعابر، يقوم الفنان بنقله إلى لوحته على شكل إشارات خطية بسيطة.
لا تخفى دلالات الإمعان في التركيز على القليل والإشاري، ليظهر جلياً على مستوى آخر، أي في ارتباطه بالاستعمالات اللونية الدقيقة. تتأسّس مجمل أعمال الكهفعي على تصادي لونين أو ثلاثة، على أكثر تقدير، في شكل بقع ولطخات وتخطيطات لونية سائلة، تسعى إلى التعبير عن فكرته الأساس، بما يجعل منها مؤشّراً يقود إلى دواخل الذات الإنسانية، عوض أن تصبح مجرّد مفردة تشكيلية تزيينية تُضفي مسحة خادعة ومموّهة على روح الموضوع.
في أحيان أخرى، يلجأ الفنان إلى توظيف إمكانات اللون الواحد، الذي قد يكون أسود أو أزرق نيلياً أو أحمر آجورياً عبر استثمار متواليات التدرّج، بما ينتج عنه هرمونية تلوينية تثير عدداً من الأحاسيس الخفية، يسعى من خلالها إلى إشراك المتلقّي في فك رموز وألغاز العمل الفني وتأويل معطياته الظاهرة.
في العقدين الأخيرين، عرفت أعمال الكهفعي انتقالاً سلساً ومدروساً من الاعتماد على إمكانات التشخيص؛ تشخيص الكائنات، بالأساس، كأسلوب تشكيلي يستند على مشاهدات الواقع، إلى أسلوب آخر يزاوج التشخيص بالتجريد، قبل أن يخلص في أعماله الأخيرة، في ما يشبه النقلة النوعية، إلى مرحلة يحتلّ فيها التجريد حيزاً مهمّاً داخل مساحة اللوحة.
لعلّ في ذلك ما يؤكّد على الدينامية التي تميّز مسار الفنان، الذي لا يكفّ عن تنويع سنداته داخل مختلف الفروع التصويرية، خصوصاً في مجالات فنون الحفر والليتوغرافيا والسيريغرافيا، التي يُعدّ أحد المدافعين عن جمالياتها المهمَلة.
اقرأ أيضاً: صلاح المر: أشخاص على وشك المغادرة