منذ 14 سنة كنت أنتقل بالقطار لساعات، أثار انتباهي مجموعة من طلاب ثانوية يتحدثون عن رحلتهم المدرسية بلغة أهل البلاد التي أقيم فيها منذ 30 سنة.
لم أكن أعير الأمر تلك الأهمية لولا أن شاباً أشقر صدرت عنه "والا" (والله). دهشت، حين دققت مرة ثانية، فقد كانت حقاً هي المفردة التي سمعتها، بل احتجت للتدقيق فعلاً بين الكلمات المتدفقة من أفواه شباب وصبايا لأكتشف بأن الأمر ليس متعلقاً بشاب عربي في مقتبل العمر يشبه الغربيين في ملامحه.
"يلا" و"حبيبي" و"طيب" وغيرها، كانت من المفردات المقتحمة للغة هؤلاء الشباب المختلطين.
بعد هذه الحادثة، رحت أهتم بتطور لغة الشباب عند علماء اللسان، لأكتشف بأن الأمر لم يكن مصادفة. فاستوكهولم سبقت منذ الثمانينيات كوبنهاغن وأوسلو بظاهرة لغوية هجينة. وفرنسا وهولندا وألمانيا وبريطانيا سبقت أيضاً مدن الشمال الأوروبي باقتحام مفردات عربية وتركية وباكستانية لغة الشباب في ما بينهم.
لقد ربط بعض علماء اللسان والاجتماع بين تلك الظاهرة وطبقات اجتماعية محددة، ففي ضواحي المدن الكبيرة، بحسب هؤلاء، توجد قابلية كبيرة لتحوير اللغة. واستند هؤلاء على تطور اللغة الأوروبية على يد الطبقة العاملة التي أدخلت مصطلحات عليها لم يكن من السهل التخلص منها، بل ترسخت وصارت جزءاً من هويتها.
متخصصون لغويون في السويد كانوا يتحدثون عن تهديد تلك المفردات للغتهم قبل أكثر من 20 سنة، فتبين لهم بأنهم يواجهون طواحين هواء غير قادرين على وقف حركتها وعكس وجهتها. ما عزز بقاء تلك المفردات، وخصوصاً "والله" وغيرها كثير، تحولها مع انتشار موسيقى الراب والهيب هوب بين ذلك الجيل، إذ لم يكن غريباً أن ترى متنافسين غربيين يغنون ويلقون شعراً مطعماً بمفردات عربية.
"والله" في لغة هؤلاء الشباب تستخدم في صيغة السؤال والتأكيد بين الجمل الغربية التي يستخدمها ذلك الجيل. "حبيبي" وبحسب باحثين تعني لهؤلاء الشباب (حتى لو كان الشاب/الشابة غير عربي) الإشارة إلى الصداقة. والشباب العرب وغير العرب حين يقولون: "يلا حبيبي" فتعني ترجمة لجملة واسعة الانتشار: "هيا تعال يا صديقي".
منذ ما قبل هجمات نيويورك وواشنطن في 2011 كانت بعض المجتمعات تتجه نحو الاهتمام باللغة العربية. صحيح بأن بعض تلك المجتمعات تركز على الصينية للناحية التجارية، لكن ما تشهده مجتمعات كثيرة من تطورات في مجال التواجد العربي، وخصوصاً إذا أخذنا المثال الإسكندنافي، فخبراء كثيرون كانوا يطالبون وزارات التعليم بإدخال اللغة العربية كمادة أساسية في مراحل التعليم الابتدائي.
هؤلاء المختصون كانت حجتهم على الدوام: "لدينا أقليات عربية كبيرة، ما هي فائدة التلميذ الصغير في تعلم الفرنسية والإنكليزية والألمانية وهو لا يجيد لغة الأم العربية". ذلك النقاش تطور إلى حد عرض اللغة العربية في المستوى الثانوي منذ بضعة أعوام. لكن المسألة تسبق النقاش.
بعد عام 2001، رغم أن الصينية كانت المفضلة، وبعدها الروسية، إلا أن تعلم اللغة العربية انتشر كالنار في الهشيم.
يُصدم بعض المراهقين حين يكتشف بأن شرطة دوريات الضواحي يعرفون ما يدور من أحاديث بينهم. فهؤلاء المراهقون الذين يعانون من مشاكل اجتماعية شكلوا صداعاً ذات يوم عبر الانتظام في مجموعات تخالف القوانين، كانوا يتبادلون فيما بينهم كلمات غامضة عن وصول الشرطة وعما يجب قوله.
كلمة "عكش" انتشرت بين ذلك الجيل وفي سنوات معينة كسحر يقع على رجال القانون غير مدركين كيف يختفي هؤلاء أو تناسق ما يقولونه لهم. مفردة "عكش" صارت من الماضي اليوم، فهي كانت تعني لهم الشرطة ومراقبي التذاكر، وغيرها من الحراسات عن مخالفات بسيطة يمكن لأي مراهق أن يرتكبها. فليس هناك دائرة شرطة لا تدرب الأعضاء/العضوات فيها على اللغة العربية.
ومع وفود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين يكتشف هؤلاء في القرى النائية بأن بعض متطوعي الصليب الأحمر يعرفون دمشق عن ظهر قلب، فيقول هؤلاء لهم: لقد درسنا في الشام اللغة العربية. أمر سهّل على هؤلاء حالة العزلة التي يعيشونها في تلك القرى التي تضم معسكراتهم.
ما يمكن تلمسه أيضاً، أن كبريات الجامعات في دول الشمال لديها قوائم انتظار طويلة في كليات تعليم اللغة العربية والإسلام. ويعد معهد كارستن نيبور"1733-1815" (عالم الرياضيات الألماني والمستكشف لمصلحة الدنمارك في المنطقة العربية في عهد الملك فريديك1761) من أعرق معاهد تعليم اللغة العربية في كل دول الشمال. ولنيبور فضل كبير من خلال جولاته في اليمن منذ تاريخ بعثته في تعريف هذه المجتمعات عن "العربية السعيدة".
ويمكننا القول إن اللغة العربية باتت جزءاً من المشهد اليومي في عديد الدول الأوروبية، بعد أن كانت محصورة في نخب قليلة كنوع من "البرستيج" الاجتماعي، فهي تنتشر بين معظم الطبقات وقد لا يكون عجيبا أن تجد السياسيين والمحامين يراجعون فروض اللغة العربية من خلال تصفح مواقع عربية وإجراء محادثات من خلالها مع من يقابلونهم من العرب.
بعض هؤلاء ابتدأ الأمر بإلقاء التحية بـ "السلام عليكم" قبل عقد من الزمن، وبات اليوم يحادثك مستخدماً مفردات غارقة في المحلية وبلكنات متعددة تتراوح بين المغاربية والشرقية والخليجية.
وبغض النظر عما إذا كان بعض الحريصين على لغتهم الأصلية في تلك البلاد الأوروبية لا يعجبهم كثيراً إدخال جيل الشباب لمصطلحات عربية في محادثاتهم البينية، فإن العربية باتت اليوم أكثر توسعاً في انتشارها بين بعض الغربيين.